إغلاق
 

Bookmark and Share

تعتعة: فضلُ الكهولة، وهل يورّث الوعي النقدي؟! ::

الكاتب: أ.د يحيى الرخاوي
نشرت على الموقع بتاريخ: 08/10/2009


‏من أفضل مزايا الكهولة أن تنسى ما لا تحتاج أن تتذكره جداً، وأيضاً أن تستعمل ادعاء النسيان لما تريد أن توهم الناس أنك نسيته. الكهولة تسمح لك أن تدّعى أنك تنام مبكراً حتى لا تنتظر من سيزورك في وقت متأخر وأنت تعرف أنه ليس عنده جديد، ثم إنك تستطيع أن تعتذر عن حضور مؤتمر سخيف تعرف توصياته قبل أن يبدأ، وأن تمارس الحب باختيار أصدق، وأن تكف عن مشاهدة هذا الفيض الهائل من رطان محطات التليفزيون ونشازاته وكذبه، وقد تجد نفسك سعيداً لأنك لا تسمع –نتيجة للصمم الطبيعي مع إضافات إرادية أو لاإرادية- ما يدور في اجتماع رسمي لا معنى لمتابعة ما يدور فيه، حتى لو كان سمعك 100%.

حين أصيب والدي بصعوبة في البصر، ثم صعوبة في السمع، ولم يكن قد بلغ سني (رحل رحمه الله في الثامنة والستين)، لم يعد عنده ما يتمكن من أن يفعله بانتظام يومي، وهو الذي لم يكف عن النشاط أبداً، ثقلت عليه الساعات الأربع والعشرين، كل يوم أربع وعشرون ساعة، واليوم التالي أربع وعشرون أيضاً، ولا يوجد يوم بعدهما يلوح بـ "بشرة خير" فيتنازل عن ساعة واحدة (هكذا كان يمازحني أبي بدلاً من أن يشكو من تثاقل الوقت)، كل ما بقي له في تلك الأيام هو حدة تفكيره وموقفه النقدي الذي لم يهمد. والدي ظل يؤجل أداء فريضة الحج رفضاً للقب "يا حاج"، لكنه كلفني قبل وفاته مباشرة بأن أتخذ الإجراءات لحجه فوراً، وبدأت فعلاً، وحين سألته: وماذا عن اللقب؟ ابتسم وأشار إلى أذنيه، ففهمت أن الصمم رحمه من سماع اللقب إياه، ومات دون أن يحقق حجته، فكتبها الله له.

منذ وعيت وأنا أراه يتلو ورداً يستغرق منه ساعات بأكملها يومياً، حتى وهو يباشر العمال في الحقل، ثم إنني حين سألته عن سبب عدم انتظامه في صلاة الجمعة وهو الذي يقوم الليل بضع ساعات كل ليلة، احتج بفتوى للإمام أبي حنيفة تقول "لا تجب الجمعة إلا في مصر"، وحين دهشت أفهمني أن "المصر" ليست هي جمهورية مصر العربية، وإنما لكلمة "مصر" في هذا النص الفقهي تفسيران اختلف حولهما تلميذا أبي حنيفة (محمد وأبو يوسف) وفهمت من كلا التفسيرين أن ذلك لوقاية المسلمين من الإبادة إذا جمعتهم صلاة الجمعة، وهم أقلية جداً في بلد لا يستحق لقب "مصر" فقهياً، وقبل أن أحتج بأن هذا لا ينطبق علينا ونحن بكل هذه الأغلبية، ابتسم صامتاً وعرفت أن عنده تفسيراً آخر لعزوفه، قاله لي فيما بعد، ولست في حلّ أن أذكره.

حين أصيب بما أصيب به واقتربت النهاية، ناداني وقال لي: "لقد كنت أعمل عندكم موظفاً بلا أجر، أرعى أرضكم، وأستثمر بعض مالكم، الآن لم تعد لي وظيفة أو فائدة، فلماذا الاستمرار؟" فزعت، ونظرت في وجهه فإذا به هو هو المحب للحياة، فأكمل يجيب نفسه قائلاً: "لعل الله قد مدّ في عمري برغم ما أصابني، لأنه عرف أنكم أحوج لدعواتي، ففرَّغني للدعاء لكم حتى يأذن في أمري".

والدي هذا هو الذي ناداني بعد سقوط طائرة داج همرشولد سكرتير الأمم المتحدة في الخمسينات، وقال لي: "بالله عليك، هل هذا الرجل الطيب المتحضر سيدخل النار؟" تعجبت لسؤاله، المفروض أنني أنا الذي أسأله هذا السؤال بثقافته الفقهية التي أعرفها، قلت له: "إيش عرفني؟" وأرجعت له السؤال، فأكد لي ثقته برحمة الله وعدله.

والدي هذا زار فلسطين سنة 1924 حين كان طالباً في دار العلوم، وحين كنت أناقشه ملتاعاً بعد هزيمة يونيو الفادحة (قبل وفاته بشهور)، قال لي أنه كان يعرف نتيجة هذه الحرب منذ تلك الزيارة الباكرة حين قارن بين "تل أبيب" و"يافا" وسكانهما، وأن ما حدث مؤخراً هو إعلان الهزيمة بشكل يستحيل إنكاره، وعلينا أن نتعلم: ما هي الحرب، ومتى نبدأها، وكيف ننتصر.

محمد إبني لا يعرف كل هذه التفاصيل عن جده، تذكرت مقالة في مجلة سطور ‏مايو‏ 2005، ‏بعنوان "رسالة مفتوحة إلى صديقي مينا غرباوي"، يقول فيها تقدمة لنقاشاتهما حين تزاملا مهاجرين في نيوزيلندا ".. كنت أريد أن أقابله في الجنة، ومن المحتمل أنه كان يريد أن يراني هناك أيضاً ..".
سألت نفسي: هل الوعي النقدي يورّث؟

وبعد:
ليست المسألة تسامحاً من أعلى، ولا وحدة وطنية، ولا قبلات احتفالية، ولكنها ألعاب ذاكرتي في هذه السن، أستعملها انتقائياً، ربما من باب الاقتصاد، فيتجلى المنطق الأبسط من البداهة، ونسأل الله التعتعة.

اقرأ أيضا:
تعتعة نفسية: المجنون لا يفعل مثل هذا!!! / تعتعة نفسية: كيف تعمل العقاقير النفسية (2) / الحق في الفرحة وسط المصائب، والأحزان!! / الزمن والتاريخ، ومعنى ما هو: أوباما / غزة، والبشرُ خلايا المخ العالمي الجديد!! / دعوة إلى: الوعي بما تملك (2/أ) / الحذاء الطائر، والبصقة العالمية، ومسؤولية الفرحة / نجيب محفوظ: بداية بلا نهاية / متواطئــون!!! / قبلات وأحضان، وسط الدماء والأحزان / أتعلم من بني كيف أنهزم بشرف وشجاعة؟ / "دورية" محفوظ بين ملحمة الحرافيش، وملحمة غزةلكنّ دَسَّ السم في نبض الكلامْ: قتلٌ جبانْ / تعتعة سياسية: هل أنت مثقف؟ / النظام العالَمي القَـبَـلي الجديدْ: آلهةٌ وأنعام!! / الوصايا العشر، لحكّام العصر، في بر مصر / تعتعة... الآخرون / تعتعة: لؤلؤة غامضة وسط كومة قش مشبوهة!! / تعتعة: معنى آخر لـ: "حسن نصر الله"!! / تعتعة: الوطن: وعيٌّ يتشكل!! إياكم أن يتخثَّرَ / تعتعة: تحديث أرجوزة: عن المفاوضات وخطة الطريق / تعتعة:‏ ‏هل ماتت الدهشة فينا من فرط الاستقرار؟ / تعتعة: أغنية إلى الله: حزنٌ جليلٌ، وشعبٌ جميلْ!! / اختزالٌ لا يليق برمضان وصومه! أنفلونزا الخنازير: بين الإرعاب والإلهاء...!!! / أوباما-جاكسون: دوريان جراى، الأصل والصورة (3من3) / تعتعة: الفجوة تتسع بين الحكومة والناس!!  / اغفاءة فإفاقة / تعتعة: لو...!!! ...IF / ياه!! دي السياسة طلعت سهلة بشاااكل.. دا أنا حتى...

نشرت في الدستور بتاريخ 26-8-2009



الكاتب: أ.د يحيى الرخاوي
نشرت على الموقع بتاريخ: 08/10/2009