السلام عليكم
أنا موسيقي.... وطفلي عمره ثماني سنوات.... وهو ذكي ونشيط، مشكلته تكمن في أنه قليل التركيز في المذاكرة.... كثير الالتفات في الفصل.... فما إن تلتفت المعلمة إلى السبورة حتى يتحدث إلى زميله، أو يقذفه بما قد يكون في يده من ورق أو قلم.... وفي بعض الأحيان يتحرك إلى آخر الفصل خلف المقاعد؛ ليلعب.... المدرسون والمدرسات جميعًا يشتكون منه....
وقد أجمعوا كلهم على أنه ذكي ويفهم بسرعة، ولكن مشكلته - حسب كلامهم- تكمن في قلة التركيز، وأنا ألاحظ أنه في بعض الأحيان عندما أشرح له بعض الدروس في المنزل يكون في حالة ذكاء متوهج، ويتجاوب بشكل رائع.... ويعدني بالاستمرار على هذا المستوى.... وفي أحيان أخرى كثيرة أجد أنه لا يتجاوب معي في استيعاب ما أقوله له!! وإذا حفظ درسًا في المساء فلا بد من مراجعته في الصباح قبل الذهاب إلى المدرسة وإلا نسيه تمامًا!!
دائمًا يتخيل.... ويسرح ويتمنى لو أنه يناضل في فلسطين؛ ليقتل اليهود كلهم.... ويتمنى لو أنه يقود طائرة؛ ليجول بها في أنحاء الدنيا.... وهذا الخيال لا يتوقف حتى في أثناء المذاكرة.... فهو يأخذ من موضوع الدرس الذي يدرسه منطلقًا لخيالات وأسئلة يطرحها عليَّ....
واضطر إلى تعنيفه غالبًا، لأننا ندرس شيئًا محددًا الآن....
وأقول له: فيما بعد يمكننا التحدث عما تشاء، فما رأيكم؟
26/7/2025
رد المستشار
الأخ الكريم، من الأمثال المصرية العامية: "ابن الوز عوّام" وسؤالك يغري بفتح ملف مهم يشغلني هذه الأيام، وهو ملف "الخيال"، هذه النعمة التي منحها الله للإنسان تمييزًا له عن سائر المخلوقات، هذه الطاقة التي تقف وراء الكثير من القفزات التي غيّرت وجه الدنيا، وحياة الناس عبر التاريخ، وفي وقتنا الحاضر.
هذه النعمة الغالية تحولت لدينا؛ لأسباب متعددة، وفي ظل ملابسات كثيرة إلى نقمة!!
ورغم أهمية الخيال حيث إنه: لا تقدم دون خيال، ولا توجد نفس صحيحة دون خيال، ولا إيمان دون خيال، ولا حياة سليمة دون خيال ـ رغم هذه الأهمية القصوى لهذه النعمة الجليلة، والطاقة الهائلة فإنها تبدو في حالتنا عبئًا ثقيلاً، وضيفًا غير مرغوب فيه، وخيلاً جامحة نريد لها أن تسكن؛ لتجر عربات الخضار، أو تدير السواقي!!
هل أقول لك: إن المؤامرة المنظمة، والخطة المحكمة التي نعيشها ونمارسها في القضاء على الخيال تبدو مسؤولة – بقدر كبير – عن تخلفنا؟!
هل أقول لك: إننا نستلم الطفل أي طفل مؤهل ليكون عبقريًّا في مجال من المجالات، ثم نجبره على القيام بالواجبات في البيت والمدرسة، والإعلام والمجتمع؛ لنقضي على ملكات الإبداع عنده الواحدة تلو الأخرى عبر مناهج تعليم عقيمة، وبرامج أطفال تسبب التخلف العقلي في أحسن الأحوال، وقمع منزلي يشبه عمليات "غسيل المخ" التي تقوم بها أعتى أجهزة المخابرات، ثم إننا في نهاية الأمر نسأل: لماذا نحن متخلفون؟!
أخي الفاضل، أعود لسؤالك عن ولدك، وأقول لك: إن النشاط الحركي وعدم التركيز قد يكون طبيعيًا كونه من معالم هذه المرحلة العمرية، وقد يكون مرضيًا يحتاج إلى تدخل من طبيب متخصص، فكيف يمكن التمييز بين هذا وذاك؟!
أولاً: ينبغي أن نبحث هل هناك إشباع لميول الطفل واهتماماته؟! وفي حالة ولدك: هل هناك من وقته في البيت والمدرسة أوقات أو حصص مخصصة للخيال والنشاط الذهني واستثماره؟!
هل أبادر بالقول: لا أعتقد؟!
لدينا الآن في مصر جمعية أهلية أكتفي بذكر اسمها أو مهمتها التي هي الدفاع عن "حق الطفل في اللعب"، فهل نحتاج إلى جمعية أخرى أو ربما قسم من هذه الجمعية للدفاع عن حق الطفل في الخيال.
ثانيًا: هل هناك محاولات لاستثمار هذا الخيال في تأليف مسرحية للأطفال أو كتابة قصة أو رسم لوحات؟! وهل هناك حد أدنى من التفهم والتعامل الرشيد مع هذه الملكة في المدرسة أو المنزل غير التعنيف والملاحقة والزجر؟!
ثالثًا: هناك أسباب عضوية لعدم التركيز، أو تساهم فيه وعلى رأسها أنيميا فقر الدم، وسببها الغذاء غير المتوازن والذي يؤثر على الطفل بصورة أسرع من الكبير، فهل قمتم بتحليل قياس نسبة الهيموجلوبين في الدم لاستبعاد هذا الاحتمال؟!
رابعًا: هناك مرض نفساني معروف في الأطفال ومن ضمن أعراضه عدم التركيز، ولكن من خلال وصفك لحالة ولدك أرى أنه – في الغالب – لا يعاني من هذا المرض بإذن الله.
وفي سبيل التعامل مع حالة ولدك تعال نبدأ بالخطوات التالية، مستخدمين الخبرة الميدانية، وبعض "الخيال" المفيد:
- ما رأيك لو جعلنا نشاط التخيل عند ولدك هو الأصل في البيت؟! شريطة أن ينجز واجباته المدرسية في الوقت المخصص لها، وأن تخصص الجزء الأكبر، وليكن بنسبة 3:2 للخيال، وليكن الخيال موظفًا في نشاط يستثمره ويطوره: رسم، أو تأليف شعر، أو كتابة قصص للأطفال…، ونقوم بتوثيق هذا الإنتاج بصور بسيطة: تسجيل، صف للنصوص على الحاسوب.
- ما رأيك لو حاولنا أن نجعل الخيال طريقًا للدرس، كما يجعل ولدك للدرس طريقًا ومنطلقًا للخيال كما تقول؟!
- ما رأيك إن بحثنا على الإنترنت عن المجموعات المهتمة بإبداع الفتية والأطفال، وهي متوافرة، ولكن تحتاج إلى بعض البحث، واتصال ولدك بمن لهم الاهتمام نفسه سيشبع بعض احتىاجه، ويجعله يستطيع تفريغ وقت أكبر بتركيز أكبر للمذاكرة في أوقاتها.
- ما رأيك لو حاولنا الوصول إلى حل وسط فيما يخص سلوكه بالمدرسة، فلا نطمح ولا نسعى إلى أن يكون الطفل المعتاد المطيع الساكن في الفصل، كما لا نرضى بأن يكون بهلوان الفصل.
إن توجيهنا له بأن لكل نشاط وقته وأهميته، هذا التوجيه لا معنى له إن لم يتوافق معه تشجيع عملي وبرامج حقيقية لممارسة نشاط التخيل الذي قد نقول: إنه جميل ومهم، ولكننا لا نفعل حياله إلا القمع، على حين نسلك مسلكًا آخر تجاه نشاط التعلم مثلاً فنلحقه بمدرسة نظامية عظيمة تقمع خياله.
وقد يجدر بنا أن نتعرف أكثر على المشكلات التعليمية التي من المتوقع أن يواجهها طفل كهذا، وأن ندخل طرفًا أصيلاً متعاونًا في حلها دون أن نبدو دائمًا في صف المدرسة ضد الطفل، بل يكون للأسرة دور متفهم لاحتياجات ومواهب الطفل من ناحية، ومتطلبات المدرسة من ناحية أخرى، وتبحث الأسرة دائمًا عن حلول معقولة في إدارة العلاقة بين المدرسة والطفل
وأخيرًا، فإن الربط بين التعلم المدرسي وغير المدرسي، وتنمية الخيال وتطويره بعد احترامه والاعتراف به هو مهمة من المهام الغائبة عن أداء الآباء والأمهات في عالمنا العربي المسكين فهل نتعاون على سد هذه الثغرة؟!
أهلاً بك، وتابعنا بأخبارك.