دائمًا ما نسمع تلك المقولة الشهيرة «فاقد الشيء لا يعطيه»، وهي مقولة تبدو منطقيةً في ظاهرها، وقد تم استخدامها بشكل يجعلها وكأنها حقيقة مطلقة، أو قاعدة نفسية لا جدال فيها، ولكن مهلًا، هل هي حقًا كذلك؟ وهل يصحّ أن نعمّم تلك الجملة دون استثناءات؟ أسأل كل ذلك لأن الواقع، حين نتأمله بصدق، يكشف لنا وجهًا آخر من الحكاية؛ وجهًا عميقًا، وربما مناقضًا لما اعتدنا عليه!
دعني أسألك مجددا: هل كل من حُرم الحب في طفولته عاجزٌ عن منحه؟ هل من لم يشعر بالأمان في صغره، محكومٌ عليه ألا يكون ملجأً آمنًا لغيره؟ ومرة أخرى سأشرح أنني أسألك لأن التجارب الإنسانية تقول عكس ذلك في كثير من الأحيان، فكم من أم لم تعرف الدفء في بيتها القديم، لكنها تحولت لنهر من حنانٍ لا ينتهي لأبنائها، وكم أبٍ نشأ في بيت لا يُعبّر فيه أحدٌ عن عواطفه، لكنه أصبح أكثر الناس تعبيرًا عن الحب والعاطفة مع أولاده، كأنما يعوّض عن جفاف الماضي بوفرة الحاضر!
هؤلاء الذين حُرموا، لا يعطون رغم حرمانهم، بل يعطون بسببه، فذلك الفقد الذي عانوا منه علّمهم معنى ما لم يحصلوا عليه، فصاروا أكثر وعيًا وإدراكًا لقيمته، فباتوا يمنحون من منطلق الإدراك العميق لما هو مفقود، ولشدة معرفتهم بقسوة الحرمان وتأثيراته!
الإنسان يا صديقي ليس معادلة بسيطة يمكن تلخيصها في أن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه، فالنفس البشرية معقّدة إلى درجة مذهلة، وهي قادرةٌ على التعلّم من أكثر الظروف قسوة، ولذلك قد ينبت في داخل الإنسان المُهمَل والمحروم نبتةٌ من التعاطف والإحساس، لم تكن لتنبت لولا تلك الظروف القاسية، فالفقد أحيانًا لا يولّد إلا رغبةً عارمةً في العطاء والتعويض!
أعرف أن هنالك وجهًا آخر للحكاية، ومفارقة لا تخلو من أهمية، إذ ليس كل فاقد يستطيع أن يتحول إلى معطٍ، فبعض من ذاقوا مرارة الفقد، يكرّرون الألم ذاته في حياة من حولهم، وقد يكون ذلك دون وعيٍ منهم، ولذا نؤكد على أن الفارق بين هذا وذاك يكمن في مدى وعي الإنسان بما تعرّض له، فمن أدرك جراحه وسعى لمداواتها، قد يصبح قادرًا على العطاء بشكلٍ مذهل، ومن أنكرها أو تجاهلها قد يعيد إنتاج ذات الألم مرارا وتكرارا!
لذلك ربما لا يكون السؤال الصحيح: هل فاقد الشيء يعطيه أو لا يعطيه، بل عن كيفية تعامل ذلك الإنسان مع فقده، وهل تعلّم منه فقرّر أن يمنح الآخرين ما حُرِم منه، أم تجاهله فأصبح ناقلًا للألم؟
ختاما، في المرّة القادمة التي ترى فيها شخصًا يُغدق محبةً بلا حدود، أو يُتقن الاستماع لكل من حوله، لا تستغرب كثيرًا، فقد يكون هذا الشخص بالتحديد، لم يحصل على ذلك كله يومًا، فقرّر أن يكون مصدره للآخرين!
واقرأ أيضًا:
عمي عباس.. وصديقه! / مهنة إصلاح الآخرين!