ذهبت مع صديق لي لشراء بعض الملابس، لفتني مانيكان، تعلق نظري به أكثر من اللازم، ذلك المسخ الذي يحاكي الجسد البشري وتعلق عليه الملابس للعرض وجذب الجمهور.
وجدتُ أن صانعي المانيكان لم يهتموا بوضع عينين وفم، بينما يوجد أنف ورأس في الغالب، بعضها بلا رأس!
فاهٌ مصمت وجسد يشبه الجسد البشري، قلت في نفسي: هذا هو المسخ.
بالتأكيد ليست هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها مانيكان، لكني كنت غاضبا بعض الشيء أو الكثير منه، فكنت أمارس التأمل! لتهدئة أعصابي المتحفزة.
قبضتُ شفتي ومن تحتها جززت على أسناني جزاً،
تذكرت سورة البلد وأنت تعلم يا صديقي بما توحي مفردة البلد ولا داعي لأن أكرر لأن شرحَ مثل هذه الأمور يبدو سخيفا بشكل مخجل.
بالتحديد قَفزتْ على سطح ذاكرتي آيات بعينها تتحدث عن الإنسان بوجه عام.
"ألم نجعل له عينين؟
ولسانا وشفتين؟
وهديناه النجدين؟
فلا اقتحم العقبة؟ وما أدراك ما العقبة!
فك رقبة..."
وأمور إنسانية أخرى أولاً.
"ثم!
كان من الذين آمنوا وتواصوا...."
حميَّة شديدة تعتريني عندما أقع على أي شيء يتعلق بالقضية الفلسطينية التي تقابَل بخذلان مهين لنا جدا، لا يقبل به رجل عادي أو حتى ذكرٌ مجرد.
مما يزيد حميتي هذه والتي أومن بها وأستمد منها سماتي، هي أني بجينات مصرية بالأساس وهذه بالنسبة لي أراها بعوينات نيتشوية كما لو أني بمجرد كوني مصري فأنا أفضل من الجميع.
وفي نظرتي النتشوية أيضا أني في يوم ما ارتقيت من كوني مصري إلى مصري عربي، فزاد تفردي واكتسبت سمات عربية نادرة جديدة، أشربتني بالوراثة صفات الزير سالم وعمرو بن كلثوم وامرؤ القيس، أحسبهم أجدادي، وتربطني بمثل هؤلاء عاطفة قوية جدا.
ثم بعد أقل من خمسين عاما فقط، جاء رجل عربي اسمه محمد عبد الله برسالة الإسلام من السماء أضافت لسماتي تفردا وتميزا، حتى أنني لا زلت أردد أن: بذور النرجس فينا أزهرت ونحن لم نولد بعد. كم نحن محظوظون مثل قارون.
من هذا التدرج الهرمي الذي أومن به ويمدني بالثقة والمسؤولية. أشعر بغضب حاد تجاه الخذلان المصري العربي الإسلامي تجاه قضية ذات أبعاد إنسانية قبل أن تكون أيديولوجية.
هذا الغضب المستمر يؤذيني بشكل مفرط كل يوم، أحاول أن أهدئ من حميتي هذه بأفكار منطقية على شاكلة.
ليس لي من الأمر شيء! أنا على هامش التاريخ والجغرافيا!
يوسف وموسى تربا في القصر، بالتالي كانا مؤهلان لإعادة تشكيل العالم، بينما مثلي لا. مقامُك حيث أقامَك. وشعارات أخرى من ذات النوع. لكن في الحقيقة أنا أكره مَوقِف جُحَا الذي كان لا يهتم إلا بنفسه، ولا أستطيع تجاوز الأمر بمثل هذه الأفكار حتى لو كانت تحمل من المنطق شيئا.
في ذات الوقت لا أملك سوى فاهٍ مصمت مسدود، كما لو أننا مُسخنا مثل مانيكان. ومثل ذلك في تكويني النفسي النرجسي نوعا ما يغدو مهينا لي جدا ولا يسعُني تجاوزه أبدا.
نصف غضبي اليومي يحمل وزره السياسات المخزية، حتى أني فقدت شغف التعلم منذ سنين، أصبحت أكره القراءة النظامية، لا أريد أن يضاف إلى وعيي أي جديد، بعض الوعي جحيم للذات. كما عبر كافكا.
خاصة إن كان من ذلك النوع النقدي الذي يرفض الركود ويُشعل الفعالية.
بينما أنا على هامش التاريخ والجغرافيا، لم أترَبّ في القصر، ليس لي من الأمر شيء.
ذو فاهٍ مصمت. أشبه المانيكان أكثر مني إلى الإنسان. مهما اشتعلتُ من الداخل؛ لن تضاء إلا كُوةً مظلمة بداخلي. تزيدني غما على غم. وهذا يجعلني أعيد في ذهني اقتباسا مشهوراً لدوستويفسكي
"أنا الذي كنت مصمما على الحياة ولو في مكان لا يتسع لموطئ قدمي.. ماذا حدث لي؟!". والحياة في نظري هي القيم الإنسانية الكبرى، وما سواها يسع أي حيوان آخر القيام به.
واقرأ أيضًا:
رفيف وأمثالها: في تأبين د. رفيف الصباغ / مُدراء ADHD في البالغين نمط العلوئية والاندفاعية