الراحة حلم الجميع، نطاردها كأنها الجائزة الكبرى، ونتخيلها جنة أرضية بلا منغصات، لكننا حين نصلها، نكتشف المفاجأة، لا شيء يحدث، السكون الذي انتظرناه طويلاً يتحول إلى فراغ أنيق، والطمأنينة التي حلمنا بها تشبه الوقوف الطويل في محطة بلا قطار، هادئة، ولكنه هدوء يقترب من الموت اللطيف!
الراحة المطلقة وهمٌ لبق، يوهمك أنها مكافأة الجهد، بينما هي اختبار جديد في هيئة نعيم، تبدأ كظلٍّ باردٍ تحت شمسٍ حارقة، ثم تتحول إلى مقام طويل في حضرة الركود، من يطِل الجلوس فيه يكتشف أن روحَه تضعف، وأن عقله يصمت، وأن الشرارة التي كانت تُنير عينيه تنطفئ!
هذا السكون المترف يتسلل إلينا بخطوات واثقة، يبدأ عادة كهدوءٍ مستحق بعد جهد، ثم يتحول إلى عادة، وصولاً إلى نمط عيش لا يحتمل التغيير، وشيئًا فشيئًا نصبح أسرى الطمأنينة، فنرتعب من فكرة المغامرة، ونؤجل أي محاولةٍ للنهوض إلى وقتٍ لاحقٍ لا يأتي، عندها فقط ندرك أن الراحة تحوّلت من دواءٍ إلى تخديرٍ طويل الأمد، ومن استراحةٍ مؤقتة إلى إقامةٍ دائمة في اللا شيء!
لست أبالغ إن قلت نحن نحتاج إلى الصعوبات كما نحتاج إلى أي من احتياجاتنا الأساسية، فالإنسان الذي لا يقاوم يفقد المعنى، والروح التي لا تكافح تفقد بريقها، والتعب الذي نشتكي منه دائما هو دليل على أننا ما زلنا نحيا، والقلق المعتدل هو نبض الإبداع المتدفق، ونعم، نحن نحتاج للراحة أيضاً، لكن المشكلة ليست في الرغبة بالراحة، بل في تحويلها إلى غاية، فالحياة في جوهرها ليست محطة استراحة، بل طريقٌ مليء بالتعب.. الجميل!
تأمل معي، حتى المبدعين، حين يحققون الراحة التامة، يفقدون شيئًا من شرارة الإلهام، فالإبداع لا يولد من الاكتفاء، بل من الحاجة والجوع المعنوي للعبور إلى مستوى جديد، فالفنّ بلا مقاومةٍ يذبل، والعقل بلا تحدٍّ يتحول إلى آلة صامتة.
وللمعترضين من عشاق الراحة نطمئنهم بأننا لا نعارضهم على طول الخط، لكن الراحة الحقيقية يا أصدقاء لا تناقض الجهد بل توازنه، كوتر العود إن بقي مشدودًا انقطع، وإن ارتخى فقد نغمته، والحكمة تكمن في أن نعرف متى نرخي ومتى نشد، ومتى نهدأ ومتى نغامر، ومتى نستسلم للراحة ومتى نعود إلى الطريق، واعلموا بأن أخطر أنواع الراحة هي تلك التي تتنكر في ثوب الفلسفة والحكمة، حين نقول لأنفسنا: «كبرت على الأحلام»، أو «تجاوزت مرحلة الصراعات»، فهذه ليست قناعة، بل استسلام مُهذّب، فالنضج لا يعني الانسحاب من الحياة، بل معرفة المعارك التي تستحق الطاقة، والرضا الحقيقي لا يعني التوقف عن الحلم، بل أن نحلم.. بهدوء!
من يهربون من كل أنواع التعب يكتشفون متأخرين أنهم هربوا من الحياة ذاتها، فجوهر الوجود نبضٌ مستمر، وكل نبضة تحمل شيئًا من الألم وشيئًا من المعنى، والألم والفرح ليسا نقيضين، بل توأمان لا يولد أحدهما دون الآخر، ولعل السعادة ليست في الوصول إلى راحةٍ كاملة، بل في ضبط الإيقاع الإنساني بين التعب والسكينة، وفي إيجاد المعنى داخل الجهد، وفي تحويل القلق إلى طاقةٍ تدفعنا نحو الأفضل بدل أن تشلّنا.
مقالنا اليوم ليس إعلان حرب على الراحة بقدر ما هو احتفاء بالعناء وقيمته، فالحياة لا تكافئ من نام في ظلها، بل من واصل السير في قيظها، والإنسان الحقيقي هو من يعيد إشعال الشغف بعد كل انطفاء، ويخترع حلمًا جديدًا كلما تحقّق حلمٌ قديم، فالموت الحقيقي ليس توقف القلب، بل توقف الرغبة في السعي، والحياة الحقيقية ليست راحةً من كل شيء..
بل تعبٌ جميل من أجل شيء يستحق!
واقرأ أيضًا:
جيل التجربة الكبرى! / عقول.. لتبرير العواطف!
