نمضي سنواتٍ طويلة من حياتنا نحاول الابتعاد عن أشخاصٍ معيّنين، ربما يكون أباً صارماً، أو معلماً قاسياً، أو مديراً متسلطاً، أو صديقاً قديماً لم نعد نتفق معه، ونتخذ موقفاً واضحاً، ونردد داخل أنفسنا: لن أكون مثلهم.. أبداً!
لعلنا نظن أن مجرد اتخاذ هذا القرار الواعي هو كافٍ لحمايتنا من الوقوع في فخ التشابه، فنعتقد أننا قادرون على تفادي أخطائهم، وصنع نسخة جديدة أفضل، خالية من العيوب التي رأيناها فيهم.
لكن الأيام، وبطريقة غامضة وهادئة، تُظهر لنا كم كنا واهمين، ففي غفلةٍ منّا، نجد أنفسنا نردد العبارة نفسها، التي طالما كرهنا سماعها منهم، ونجد تصرفاتنا في أوقات الغضب مشابهة بشكل مدهش لما كنا ننتقده، فيصبح صوتنا أعلى قليلاً، ونصير أقل صبراً، وربما أكثر حدة مما كنا نتصور!
عند هذه اللحظة، يبدأ السؤال المؤلم بالتسلل إلينا: هل كنا نبالغ في انتقادهم أم أن الحياة، بكل تحدياتها وتعقيداتها، تدفعنا قسراً لتكرار ما عشناه يوماً؟ وهل ما اعتبرناه عيوباً فيهم، لم يكن في الحقيقة سوى طريقتهم في التعامل مع واقعهم؟
نعم، قد يدهشنا أننا لم نقصد أبداً أن نصبح مثلهم، ولم نخطط لذلك، أو نسعى إليه، لكن ذلك حدث بهدوء، في لحظات الإرهاق، وفي المواقف الصعبة، وعند ضغوطات الحياة اليومية، فتسرّبت سلوكياتهم إلى تصرفاتنا من دون قصد، وبلا إدراك حقيقي منا!
نحاول بعد ذلك تبرير هذا التشابه، ونقول لأنفسنا إن الظروف هي التي دفعتنا لذلك، أو إن المواقف تتطلب أحياناً شيئاً من الحزم، ولكن الحقيقة التي يصعب تجاهلها تظل حاضرة أمامنا هي أننا بدأنا فعلاً نُشبههم!
مع هذا، ينبغي ألا يكون هذا الإدراك سبباً للإحباط أو شعوراً بالفشل، فهذا يعني فقط أننا بشر، وأن الطريق بين النية والتنفيذ أكثر تعقيداً مما تخيلناه، ولربما يكمن الحل في ألا نرفض تماماً كل ما فيهم، بل في أن نتعامل بوعي مع ملامحهم التي انتقلت إلينا!
ربما علينا أن ننتقي مما نتشابه معهم فيه ما هو مفيد، وما يُساعدنا على تجاوز تحدياتنا، إذ لا حاجة لأن نرفض كل شيء، ولا أن نقبل كل شيء، بل أن نكون أكثر ذكاءً في اختياراتنا.
نعم، قد نجد في أنفسنا يوماً بعضاً من تصرفاتهم، لكن لا بأس في ذلك؛ فالحياة ليست رحلة هروب مستمرة من الآخرين، بل رحلة اكتشاف مستمر لأنفسنا، ولعل الحكمة تقتضي أن ندرك بوعي أننا، مثلهم، نحاول فقط أن نكون أفضل قليلاً ممن سبقونا!
واقرأ أيضًا:
إدمان الحلول السريعة! / عقدة الخبير المزيف!