رمضان وصومه يفتحان الباب واسعًا أمام الحوار والتفكير في شؤون العبادة، فالصوم عبادة بدنية تتعامل مع عالم المادة بالامتناع عن الطعام والشراب والجماع، وهي عبر هذا وغيره من شروط وأركان وآداب، تسعى إلى تزكية النفس، والسمو بالروح.
لكن هل الصوم هو العبادة البدنية الوحيدة في الإسلام؟ وهل حركة البدن تنضبط بأوامر الشرع فقط في رمضان؟ وفي ممارسة الصوم فحسب؟!
* والجوارح تعبد:
إذا كان الله سبحانه قد شرع الصوم، وفيه الامتناع عندما يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم في سجوده: "اللهم سجد لك عظمي وعصبي.. "وقبل نومه يقول: اللهم إني أسلمت وجهي إليك.." وحين يقول: "يُصبح على كل سلامي - أي مفصل- في أحدكم صدقة".
ومن قبل ذلك يقول الله سبحانه (وخشعت الأصوات) والصوت هو من آثار فعل أعضاء البدن. وفي الصلاة يتوجه الإنسان بجسمه - وليس بقلبه فقط- إلى موضع معين في الأرض، ويقوم بحركات محددة على هيئات مخصوصة تشكل بالإضافة إلى أقوال معينة صلاة المسلمين، وتميزها عن صلاة غيرهم. والبدن مسئول - عبر صاحبه - عن أفعاله، والأعضاء تنطق يوم القيامة بما فعلت، حتى بالمخالفة لصاحبها وقوله يومئذ.
هذا الاهتمام بالبدن، وإدخاله ضمن المعادلة الإيمانية الدينية ربما لا يكون كذلك في أي دين، أو مذهب آخر غير الإسلام..
* والزواج عبادة:
ويصل الأمر إلى ذروته في الزواج الذي هو في جانب فن تنظيم للعلاقة الجنسية والاجتماعية على نحو يتجاوب مع غريزة الشهوة، وغريزة الاجتماع الإنساني التي فطر الله الإنسان عليهما.
وفي الإسلام - دون غيره- يتحول الفعل الجنسي الذي هو ذروة الاستمتاع المادي الجسدي إلى عمل ديني، وعبادة إذا وافق ضوابط الشرع، ورافقته النية الخالصة لوجه الله.
وهذا الأمر اندهش له الصحابة رضوان الله عليهم حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في نفس حديث الصدقات على المفاصل "بالمناسبة": وفي بُضع أحدكم صدقة "قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له بها أجر قال: أرأيتم إن وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟! قالوا: نعم.. قال: كذلك إن وضعها في حلال يكون له بها أجر".
إنه ضبط حركة البدن، وفعله بضابط من الله سبحانه، وليس بضابط من الرغبة أو القدرة الصحية أو المعايير الاجتماعية في التحسين والتقبيح.
والشواهد والتجليات كثيرة في أن الزواج عبادة، وهو ما عليه الاتفاق بين الفقهاء القدامى والمحدثين رغم اختلافهم في حكم الزواج نفسه هل هو فرض أم مباح؟!!
* والخروج على النظام فاحشة:
على غير ما تقول به ديانات مثل: المسيحية أو البوذية فإن الإسلام لا يفهم العلاقة بين الروح والجسد ربما تكون المشكلة الأكبر في الزنا ليست هي اختلاط الأنساب، أو انتهاك الأعراض، أو كل هذا من مسائل قد يقبلها مجتمع ما، أو تحول دونها تدابير وإجراءات وقائية؛ المشكلة تظل أن الزنا يخرق النظام الذي أراده الله للبدن في حركته وعلاقاته، وللإنسان في محيطه الاجتماعي وصلته بالآخرين، وذلك لأنه علاقة تتمحور حول المتعة الجسدية الحسية أساسًا، وهذه المتعة تبقى هي المحرك الرئيسي للعلاقة بقاءً أو انقطاعًا، بل تبقى الشهوة والمتعة هي الهدف الأهم، والأفق الأبعد الذي يحاول الناس الوصول إليه، وهنا تتغير صيغة العلاقة بين الإنسان وجسده، وبين جسد وآخر، فبدلاً من أن تكون هذه العلاقة في إطار ديني، تتخفف من الأعباء الأخلاقية للالتزام بضوابط، وتنفلت دون ضابط غير الضوابط الطبيعية صحية كانت أو اجتماعية أو غير ذلك، وهي ضوابط متغيرة ومضطربة، ومع اضطرابها تختل حياة الإنسان في سعيه للحاق بأعلى درجات المتعة.
* والقرآن يصف الأمر: "ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا" (الإسراء:32) ووجدت في معاجم اللغة أن الأمر الفاحش - مذكر فاحشة- هو الذي يشتد قبحه، وهو أيضًا الذي يتجاوز الحد أي يتخطاه، ولذا يستدعي إقامة "الحد" بعد أن اعتدى صاحب التجاوز، وفي معنى الفحش أن فيه تغليب وإكثار وهو هنا لجانب الجسد ورغباته على بقية الجوانب في الإنسان..
* الزواج صديق أم عدو!!
ورغم أن الزواج في ذاته عبادة إلا أنه قد يكون عونًا على العبادات الأخرى، والطاعات المختلفة، وقد يكون حربًا عليها، فالوقت محدود، والطاقة محدودة، وقد تشغل أمور البيت وشئونه الزوجة أو الزوج عن عبادته تلاوة للقرآن كانت أو قيامًا الليل أو غير ذلك.
وقد يُعين الزواج والأسرة على تداول معاني طاعة الله، وممارسات التقوى تعاملاً بين الأطراف المختلفة وتعاونًا على البر. ورمضان يُعيد فكرة العبادة إلى المركز ليدور حولها الوقت وحركة الجسد، ومعادلة النفس، والروح، والمجتمع، ويعطي نموذجًا بالتدريب العملي على نظام أسري يتخفف من مشاغل البدن دون أن يلغيه لصالح العبادة دون أن يقتصر علي طقوسها.
ولذلك فإن الأحاديث التي تصف حال الرسول في رمضان تذكر حاله مع أهله، وعلاقته بزوجاته مثل إنه: "إذا جاء العشر الأواخر أيقظ أهله..".
وفي رمضان تغيير للنمط الذي تعيشه الأسرة طوال العام في الغذاء والمعاشرة، وفي التعامل والتفاعل، وفيه معنى إعادة النظر في النمط الذي يعيشه الإنسان، وفي علاقته ببدنه، وبأسرته، وربما يتنبه إلى أن شئون هذا البدن، وتلك العلاقات تحتاج إلى إصلاح أو تعديل لتصبح دوافع إلى صلة أكثر قربًا بالله، بدلاً من أن تكون عوائق تحول دونها.
إن الصوم وأسلوبه يقلب نظام الرتابة المعتاد يعطي فرصة لمن يريد أن يتغيَّر، ويمنحه الثقة بالنفس أنه قادر على الخروج عن النمط الحياتي الذي لا يظن أنه يستطيع العدول عنه، وهو حين يحرم الإنسان من بعض حظوظ البدن في النهار يلفت نظره إلى وجودها نعمًا من الله تستحق الشكر، وتستدعي الضبط على هديه. والرابطة بين العبادة والزواج والبدن جميعًا تتجلى بوضوح في الحديث الشريف: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" والوجاء الوقاية، وهي هنا وقاية من تجاوز الحد، والتعدي على النظام، والوقوع في فاحشة البدن المنفلت.
ندعو الله أن يضبط جوارحنا فتطمئن قلوبنا، ويشفى أسقامنا في الروح والبدن
واقرأ أيضا:
من سبت الغفران إلى سبت الطوفان23 / رمضان بين الروح والجسد