ربما عقلنا الجمعي محكوم بأواصر كان، وآليات تفكيرنا تقضي بأن ما كان عليه أن يكون، مما أدى إلى تداعيات متواصلة في مسيرة حياتنا، لأن الزمان لا يُدرَك كحالة متحركة والمكان كمتغيرة.
وفي ذلك تأكيد على نمطية الثبات والرسوخ والجمود، وإنكار دوران الأرض واختلاف الليل والنهار،
فعندما نقرأ خارطة سلوكنا، يتضح حجم الأسر وثقل القيد المرهون بكان.
وهناك الكثير من الحركات والمدارس والتجمعات الداعية إلى تحقيق كان في زمن يكون، وهي تقصد إلغاء أبعاد الزمن وحشره في بقعة ثابتة لا يمكنها أن تتبدل أو تحقق وجودا متجددا.
هذه النمطية بآليات تفكيرها وإدراكها واستجاباتها ومفردات تفاعلاتها مع المحيط، تتسبب في صدامات حقيقية ما بين الذات والموضوع، وما بين الموضوع والموضوع، للحد الذي تتحول فيه الحياة إلى مستنقع تتآكل فيه الأحياء، وتفوح منه عفونة الصراع ومعطياته النتنة.
ذلك أن جوهر طبيعة الوجود هو الجريان، فما سأل طاب وما لم يسل لن يطب، معادلة واضحة معروفة ومن بديهيات الصيرورات الأساسية.
فلماذا نحشر وجودنا في كان ونرتدي أزياءها ونحتسي أفكارها ونستعين بها على قتال يكون.
إن الإنسان ابن عصره ومولود من رحم ماضيه ومنطلق نحو مستقبله، ولا يمكنه أن يكون في حرب مع الأبعاد الزمنية، وإنما لا بد من تحقيق التوازن النافع والمجدي.
وأن تكون مساحة الأبعاد الزمنية الفاعلة في حياتنا متناسقة ومتناسبة ولا يتجاوز بٌعد على آخر فيها، ومن غير المعقول أن لا تكون حصة الحاضر هي الأكبر وحصة الماضي هي الأصغر، لأن الحاضر يلد المستقبل، ولا بد له أن يكون أكثر حماسا في الانطلاق نحوه، ومتحررا من قوة الارتداد إلى الوراء.
وكلما صغٌرَت مساحة الماضي في صيرورة الحاضر، كلما تمكن من الحركة الأرشق والأصوب نحو المستقبل.
ولا يمكن التصديق بأن ما زُرع في تراب الماضي يمكنه أن ينمو في تراب الحاضر، لأن لكل فكرة وعاء ووسط صالح لنمائها، وعندما يتغير الوعاء والوسط فإنها لا تنمو وإنما تموت أو تعطي غير الذي كانت تعطيه في وسط آخر.
ومن هنا فأن المدعين بإلغاء يكون وحشرها في بدن كان، يناقضون ناموس الوجود، ويعارضون طبائع الأكوان وأحكامها، وقوانين الخلق بأسره.
فلو إن كان هي الفاعل الأساسي في الوجود، لما تحققت الحركة، ولما أدركنا بأننا من غير الحركة نفنى ونغيب، ولو أن الأرض لا تدور لما وجدت الحياة.
فالحركة سر البقاء والتواصل والنماء، وقوة مؤثرة تؤدي إلى تغيير، والتغيير مصحوب بشروط جديدة وظروف تؤهل حالات مناسبة للانطلاق، والتعبير عما فيها من الطاقات والقدرات الفعالة.
وهكذا فإن كان ابنة حالتها التي تحققت فيها ولا يمكنها أن تتجسد في واقع يكون.
والذين يسعون إلى معارضة ناموس الكون الخالد، يستنزفون الطاقات ويبددونها، ولا يحصدون إلا الويلات والضرر الفادح بأركان التواصل الحيوي الفعّال، ويكونون أعداء يكون ولايخدمون إلا الخسران.
فهل من استفاقة من دثار العدم؟!!
كانَ عاشت في زمانٍ ودَّها
وتناءت عن زمانٍ ضدّها
بيكون الأرض قادت سيرها
نحو آتٍ لا بغادٍ نهجها
فأبصر الأيام فيها واضحا
وتعلم كيف ترعى مجدها
واقرأ أيضا:
عودة الأمة!! / تأريخنا وجهلنا !!