الأخ الكريم الدكتور/أحمد عبد الله.
قرأت مقالتك عن: الجهاد المدني.. الطريق إلى فعل مختلف، وأشكرك عليها لما حوت من معلومات قيمة، ورأيت أن الواجب يدعوني أن أضم صوتي إلى صوتك عبر صفحة استشارات مجانين التي أعتقد أنها تستقطب الكثيرين من رواد موقعنا الكريم، لعل الاستفادة تكون أكبر، كما قرأت مشاركة أ. معتز الخطيب فيها الجهاد المدني... مفهوم بديل أم فعل الممكن؟
وهي التي قادتني لمقالتك تلك القديمة.
إذ أنه يتوجب على كل من يملك مصباحًا أن ينير الطريق الذي اشتد ظلامه في الآونة الأخيرة إلى درجة أصبح من المتعذر على الإخوة -خاصة من الشباب المتحمسين- تبين مواقع أقدامهم في ظلمة الليل الدامس؛ ولست ضد الحماس أبدًا إذا أنتج فعلا موجهًا مؤسسًا على منهج صحيح ورؤية شمولية للأمور، أي إذا ترافق الحماس مع الحكمة.
لكنني أخشى أن نصل إلى ما عبر عنه الإنجيل: "إنه صوت الشر فلتسكت الحكمة" بسبب الأصوات التي تتعالى هنا وهناك داعية الناس إلى الجهاد المتجسد في مفهوم القتال فقط، مع أن مجالات الجهاد أوسع بكثير من هذا المفهوم كما بينت في مقالتك المذكورة أعلاه.
والحكمة تقضي باختلاف التصرف والاستجابة مع اختلاف الموقف والظرف؛ ولا أستطيع تبين وجه الحكمة فيما يجري الآن هنا وهناك من إثارة للعواطف والانفعالات بشكل يصبح الجميع معه أدوات في يد أعداء الإسلام والإنسانية دون وعي؛ لأن الفعل المضاد لهؤلاء الأعداء لا يكون إلا باتخاذ أسلحة كأسلحتهم، وأهم سلاح يمتلكونه هو التخطيط، وهو السلاح الذي نفتقده على مستوى الأفراد والجماعات؛ فالعشوائية تغلب علينا والانفعالية تحكمنا والنظرة قصيرة المدى تحدنا.
وعندما أقول إن أعداءنا يخططون فليس معنى ذلك أني من أنصار نظرية المؤامرة، لكن لو لم تجد الجراثيم الفكرية الوافدة في الجسم العربي مرتعًا خصبًا لها لما وصل حالنا إلى ما نحن عليه الآن.
والسؤال الذي أطرحه على نفسي وعليك علنًا كمن يفكر بصوت عال: مَن هو المستفيد من تفعيل العواطف وتجييشها عشوائيا بهذا الشكل؟ هل هو بعض وسائل الإعلام بأشكالها المختلفة سواء الفضائيات أو مواقع الإنترنت أو الصحف ومن وراءها؟
لنأخذ مثلاً الفضائيات العربية؛ إذ أرى كثيرًا من القنوات العربية ما تزال تبث الأغاني والأفلام، ولا تذكر ما يحدث إلا من خلال الأخبار ذات المواعيد المحددة، بينما أرى بعضها الآخر جرد أسلحته كلها في رصد حالة الحرب على غزة ولبنان وسوريا وتحليلات أسبابها ودوافعها وتوابعها وتداعياتها، وهذا يحسب لتلك القنوات الأخيرة ولا شك، فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم كما ورد في الحديث.
لكن هل يعني هذا أن تتوقف الحياة عند إدراك الحرب فقط؟ فأين بناء المجتمع الذي تدعو أنت له في مقالتك المعتبرة ويدعو له أمثالك من المثقفين المتنورين؟ ألا يستدعينا هذا الموقف الذي نراه أمامنا الآن يتكرر المرة تلو المرة في تاريخنا الحديث جدًّا أن نتوقف لنفهم ما يجري، وفي أي اتجاه يتم القذف بنا.
منذ آخر السنة قبل الماضية شغلنا بأحداث طوفان الأقصى المستمرة ما تزال، وكذلك أحداث الضفة الغربية ومذابح جنين وغيرها، ولم تكن ردود أفعالنا تجاه ما يحدث إلا ما تسمح لنا به الأنظمة الحاكمة، وقد سمحت حينها بالمظاهرات في أغلب البلدان العربية اللهم إلا تلك التي فضلت أن تتقوقع في كهوف الصمت المطبق.
ولكن ردود الأفعال في أحسن الأحوال لم تتعد الظاهرة الصوتية أو رسائل البريد الإلكتروني التي توقفت بتوقف الأحداث، وإلى الآن ما أزال أذكر أن إحدى الإخوة التي تُعتبر من المثقفات أرسلت لي صورة مأخوذة من موقع يهودي وكيف يخططون لتدمير الكعبة، فأرسلت أرجوها ألا ترسل شيئًا من هذا لي أو لغيري كي لا تساعد في دعم الخطط الصهيونية بنشر مخططاتها عبر الإنترنت؛ لأنها تساهم بذلك في الحرب النفسية؛ فرؤية بيت الله وهو يضرب بهذا الشكل إهانة لهذا المكان المقدس الذي له رب يحميه، لكن من يحمينا نحن من جهلنا وتخلفنا وغوغائيتنا وردود أفعالنا؟!
وهاهي ردود أفعالنا لا تختلف بحال عنها في السنة الماضية أو ما قبل الماضية؛ فقد عاد بريدي الإلكتروني يمتلئ بسهولة، وعادت الرسائل القصيرة "ترن" في المحمول من أمثال: "غدًا دعاء لغزة من بعد صلاة الجمعة حتى المغرب"، أو "يوم الإثنين القادم صيام من أجل فلسطين"، ولا أحد يعترض بالطبع على أعمال الخير، لكن إلى متى سنبقى نذكر الله في الشدة وننساه في الرخاء؟ ولماذا لا نجعلها عادة؛ فنلجأ إليه سبحانه صباح مساء؟!
لن أطيل عليك؛ فقط أود أن أؤكد على بعض ما ورد في مقالتك الرشيدة، وأعقب عليها لعل في كلامي بعض الفائدة؛ إذ ما تزال شريحة واسعة من الناس لا تتقبل فكرة كهذه، وترفض بالكامل مسمى "الجهاد المدني"، وأعتقد أن السبب أحد ثلاثة اتجاهات:
الأول: ظن البعض أن فريضة الجهاد المدني تلغي فريضة الجهاد المقدس؛ لذلك وجب التأكيد على أن الجهاد المدني مرحلة أولية سابقة على الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، والذي يتمثل ببذل الروح رخيصة عندما يتطلب الأمر ذلك، لكن كون هذه الروح غالية جدًّا لأنها أمانة من الله سبحانه؛ فيجب أن يكون لدى المسلم البصيرة والوعي الكافيان ليعرف متى يبذلها ومتى يحميها.
وأبسط مثال على ذلك أن الشهادة في سبيل الله مآلها الفردوس الأعلى، أما الانتحار فعاقبته النار، رغم أن كليهما موت، لكن شتان بين هذا وتلك. وسأتوسع بإذن الله بهذه الفكرة في ردي على سائل يسأل عن الجهاد في العراق.
الثاني: يظن البعض أن مفهوم الجهاد المدني يعني مسالمة ومهادنة الحكام، ويحتجون على ذلك بمقولة: "إن الله يصلح بالسلطان ما لا يصلح بالقرآن"، ومع عدم إنكاري صحة هذا القول؛ فإن الأمر ليس كذلك فيما أعتقد، بل إن السعي في بناء المجتمع المدني هو اعتماد أسلوب اللاعنف في الخروج على السيطرة، وشل إرادة المستبد، وهذه آلية من أعقد الآليات، وتحتاج حكمة وبصيرة وحنكة وذكاء، وتشتد هذه الحاجة كلما كان الحاكم مستبدًا، وليس أجمل من قول عبد الرحمن الكواكبي -رحمه الله- الذي سقته في أحد ردودي: "إن الاستبداد لا يواجه بالعنف، ولكن يواجه بالذكاء".
الثالث: ارتبط مفهوم المجتمع المدني في أذهان الكثيرين منا بفكرة فصل الدين عن الدولة التي نادى بها متنورو العصور الحديثة كرد فعل على ظلم الكنيسة وارتباطها بالطغيان الملوكي، حتى سادت تلك العبارة: "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس"، وأعتقد أنه أحد الأسباب التي جعلت مؤسسات المجتمع المدني منعزلة عن القاعدة الشعبية كما تتفضل؛ فهنا أرى أنه من الممكن أن نستفيد من تجربة الأمم الأخرى دون أن نطبقها حرفيا بشكل لا ننخلع معه من خصوصيتنا وذاتيتنا.
فأنا رغم أنني أتفق معك بالرأي أن يتم الاتحاد مع كل الأيديولوجيات الأخرى التي تدعو إلى تفعيل المجتمع المدني حتى لو لم تكن إسلامية، وذلك اقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام الذي اشترك في حلف الفضول قبل الإسلام؛ بحيث ينتصر للمظلوم من الظالم، وقال عنه بعد البعثة: "لو دعيت إلى مثله في الإسلام لفعلت"، أي لا مانع من العمل المشترك مع كل من يدعو إلى احترام حقوق الإنسان، وإرساء الحريات والمزيد من الشفافية، مهما كانت وجهته الدينية أو الأيديولوجية.
لكن يجب أن أعترف بالإشكال القائم لدى البعض برفضهم هذا التقبل للآخر، وأرى أن على المثقف المسلم مهمتين هنا: أولاهما: هي تغيير نظرة العامة للآخر المخالف بشكل تدريجي. والثانية: هي الاستناد إلى منهج القرآن الكريم في إصلاح المجتمع؛ لأنه هو المنهج الأكمل والأصلح. ومن سمات هذا المنهج: الربانية، والشمولية، والثبات والمرونة، والترغيب والترهيب، وأخيرا التيسير.
واسمح لي أن أؤكد على ما ذكرته أنت من مجالات الإصلاح بتسجيلها اعتمادًا على منهج القرآن الكريم -دون ذكر الشواهد كي لا تطول مشاركتي- لأنها هي المجالات التي ينبغي التأكيد عليها حاضرًا ومستقبلا:
1- إصلاح العقيدة: كالدعوة إلى التوحيد الخالص، وحث العقل على التفكير والنظر، والنهي عن اتباع الظن والتقليد في العقائد والأحكام، وإظهار العقائد الفاسدة لأهل الكتاب والمشركين، وغلق كل الأبواب المؤدية إلى الشرك، والتحذير من الشرك الأصغر (الرياء)، والتحذير من النذر والذبح لغير الله أو الحلف بغير الله، والتحذير من إتيان الكهنة والعرافين، والتحذير من إشراك غير الله في التشريع والحاكمية.
2- الإصلاح الأخلاقي: وهذا غني عن التفصيل فيه؛ فمكانة الأخلاق في الإسلام معروفة، ويكفي حديث من لا ينطق عن الهوى: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
3- الإصلاح الاجتماعي: كعلاقات الأرحام والجوار والصداقة، والعلاقة بعامة المسلمين وبغير المسلمين، والتأكيد على روابط المجتمع المسلم بما فيها مفاهيم الأخوة والمساواة والحب في الله والتعاون والتكافل والتناصح والإيثار.
4- الإصلاح الاقتصادي: كتصحيح النظرة إلى المال، ووجوب العمل، ومحاربة البطالة، واستغلال الموارد الطبيعية، والأمر بالاقتصاد والنهي عن الإسراف، وتحريم موارد الكسب الخبيث، وتحريم الاكتناز وتشجيع الاستثمار، والتكافل الاقتصادي، وتقريب الشقة بين طبقات المجتمع، والحث على التزام القيم الإسلامية في المعاملات.
5- إصلاح السياسة والحكم: كالحكم بمنهج الله، وإقامة العدل، وممارسة الشورى، وتحقيق الحرية، ووجوب صلاح الحكام وعمالهم، والعلاقة بين الحاكم والمحكومين، ومركز الحاكم وسلطاته وواجباته.
وإذا تأملنا هذه المجالات الخمسة نرى أن مجتمعاتنا تعاني من خلل كبير فيها، والخلل الأكبر الذي يجب التنبيه له أن مهمات الإصلاح هذه لم تعد مسؤولية الفقهاء وعلماء الدين والدعاة، اللهم إلا في مجالي العقيدة والأخلاق.
أما الأمور الأخرى فلا بد من معالجتها من قبل الدارسين المختصين المسلمين، والسبب يعود إلى تشعب الحياة وتفرعها وتنوعها بشكل لم تعد الدراسة الدينية كافية وحدها في حل كثير من المعضلات التي نواجهها على صعيد المجتمع والاقتصاد والسياسة؛ بل لقد بات فريضة وضرورة أن يجمع المصلح الاجتماعي مثلا بين دراسة علم الاجتماع والتجارب الإنسانية في هذا المجال والإحاطة بآليات التغيير من وجهة نظر إسلامية رحبة، وما ينطبق على الاجتماع ينطبق على الاقتصاد وعلى السياسة.
وهذا يجعلني أؤكد على فكرة التضحية التي هي من أهم وسائل الجهاد المدني، وقد أوردت أنت هذه الكلمة تحت مفهوم التطوع؛ لأنه درج الاعتقاد في مجتمعاتنا أن الدارس لهذه العلوم الإنسانية لن يكون مورده المالي كالطبيب أو المهندس، وإن كان هذا الاعتقاد لا يخلو من صحة، ولكن الأرزاق بيد الله سبحانه.
وأتمنى أن يفهم الجيل الشاب هذه العبارات التي يقرؤها ويفقه أبعادها؛ فنحن على مشارف تحدٍّ واسع جدا في العقيدة والمجتمع والأخلاق والسياسة والاقتصاد، ويجب أن نفكر منذ الآن بالتخطيط للمستقبل القريب والبعيد، وقد قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله"، فجعل عبارة "ولتنظر نفس ما قدمت لغد" معترضة بين "اتقوا الله" الأولى و"اتقوا الله" الثانية.
وما أفهمه من هذا الترتيب الحكيم أننا كما نحن مأمورون بالتقوى؛ فنحن مأمورون بالتخطيط للمستقبل، وإن كان البعض لا يفهم من كلمة "الغد" في هذه الآية الكريمة إلا الآخرة، فإن الدنيا لا تنفصل عند المسلم عن الآخرة، بل الأولى طريق للثانية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإننا مأمورون بإعمار هذه الأرض، وبناء المجتمع الإنساني. وهذا لا يكون إلا عبر تخطيط دنيوي محكم، يتبصر أخطاء الماضي، ويستشرف آفاق المستقبل، ويستعين بتجارب الآخرين، ويستضيء بنور الله ومنهجه الرباني الشامل.
إذن نستنتج مما ذُكر أعلاه أن مفهوم المجتمع المدني يعادل تمامًا فكرة إصلاح المجتمع التي هي غاية إسلامية بالأساس، ولا يقلل من أهمية هذه الغاية إطلاق اسم "مصطلح جديد" عليها، أو الاستفادة من التجارب غير الإسلامية ما دامت هذه الوسائل مباحة في شرعنا.
ولذلك اسمح لي أن أتوسع بما أتيت أنت به مثالاً على اللاعنف، وهو تجربة غاندي في الهند، وما يدعوني إلى التوسع والإيضاح هو ظني أننا على وشك أن نصبح في مواجهة مع الثقافة الغربية بشكل لم يسبق له مثيل من قبل؛ إذ من المتوقع أن تكون الهيمنة الغربية على أراضينا ليست ثقافية فحسب، بل اقتصادية أيضا إن لم تكن سياسية وعسكرية، وها قد ظهرت النوايا بالكلام عن الشركات الأجنبية التي ستبدأ إعمار غزة، ومصائب قوم عند قوم فوائد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
"لجأ الهنود في مقاومتهم ومقاطعتهم السلمية للمستعمر إلى أساليب كثيرة، منها الانقطاع عن العمل في مؤسسات المستعمر، والامتناع عن استخدام أوعيته الاقتصادية من بنوك وشركات، ومقاطعة مناسباته واحتفالاته، ورد ما حصلوا عليه من أوسمة وشهادات ومكافآت، وهجر مدارسه ومعاهده ومراكزه، بالإضافة إلى تنظيم المسيرات الصامتة ورفع الأعلام السوداء على المباني وتشكيل لجان جمع التبرعات لدعم المحتاجين والمتضررين من الانقطاع عن العمل في دوائر المستعمر، واتباع متطلبات اقتصاد الحرب من تقشف ونبذ للبذخ.
على أن أهم مظهر من مظاهر التجربة الهندية كان مقاطعة بضائع المستعمر، وعلى رأسها الملابس التي كانوا ينتجونها في مصانعه اعتمادًا على ثروة الهند من القطن، ويعيدون تصديرها إلى ملايين الهنود، محققين من ورائها ثروات طائلة.
وكان رأي غاندي أنه لو اعتمد كل هندي على نفسه في صنع ما يلبس وزراعة ما يأكل لتغيرت أمور كثيرة. وبطبيعة الحال لم يكن غاندي يقصد بذلك أن الهنود بمقدورهم أن يفقروا المستعمر، ويحطموا اقتصاده إن قاطعوا بضائعه ومنتجاته، وإنما كانت المقاطعة بالنسبة إليه عملا رمزيا يشير إلى امتلاك الهنود للإرادة والعزيمة الضرورتين لصنع المعجزات.
وهكذا دارت مغازل القطن اليدوية في كل بيت وقرية ومدينة على امتداد مساحة الهند لتوفر البديل للمنتجات الأجنبية، ولتشكل أصواتها الهادرة بالتزامن أجمل نشيد وأحلى نغمة من أنغام الحرية، على حد وصف نهرو. وكانت المحصلة أن شعر الهنود لأول مرة بسريان روح العزة والكبرياء في نفوسهم. وهو ما كان يسعى إليه غاندي تحديدا.
وإيمانا من غاندي بأن كل فكرة تطرح على الجماهير لن يكتب لها النجاح إلا إذا قدمت القدوة الحسنة؛ فإنه حينما دعا إلى المقاطعة بدأ بنفسه. وهكذا انقطع الرجل الحاصل على إجازة المحاماة من جامعات بريطانيا عن مزاولة مهنته أمام محاكم الهند البريطانية، وهجر ملابسه الأوربية، مستعيضا عنها بالكادي الهندي المصنوع من القطن المحلي، واقتصر طعامه على حليب ماعزه، وما تجود به الأرض الهندية من حبوب.
ليس هذا فحسب، بل من خلال تغطية جسمه بالقدر الأدنى من القماش الكافي لستر العورة، ومن خلال حمل مغزل القطن معه أينما ذهب، والجلوس خلفه لساعات طوال أعطى القدوة في الامتناع عن الإسراف، طالما أن الأمة تعيش معركة الحرية التي تستوجب الاقتصاد والتعاضد والمشاركة، وأعطى القدوة في استغلال الوقت في العمل المنتج الذي يوفر البديل لبضائع الغرب.
وتأسيسا على هذه المبادئ فإنه اشترط على رموز الحركة الوطنية حينما طلبوا منه قيادة حزب المؤتمر الهندي أن ينتج كل واحد منهم ألفي ياردة من النسيج شهريا كي يثبتوا أنهم والشعب في التضحية والمقاومة سواسية، وأنهم بالتالي جديرون بقيادته وتمثيله.
والسؤال: كم عدد المثقفين الذين يستطيعون أن يكونوا قدوة كما كان غاندي؟ وكم عدد الذين يشجعون الصناعات الوطنية لدينا؟ أليس الخلل موجودًا على مستوى النخبة كما هو موجود على صعيد العامة؟ وهل السبب يعود إلى خنق الروح الوطنية عند الكثيرين بسبب الأنظمة التي تحكم حاليا أو التي حكمت سابقا؟ أم أن السبب هو أننا اعتدنا على الرفاهية والتنعم؛ لدرجة أصبح معها سلاح المقاطعة صعبا للغاية؟ وسواء كان الأمر هذا أو ذاك.. فكيف نستعد للغزو القادم الذي لا يعلم إلا الله مداه؟ وما هو الحل لهذه السلبية المتوارثة؟ أو ما هي الطريقة لتفعيل أي عمل إيجابي ليكون ذا مردود أكبر؟
ربما يظن البعض أن أسئلتي هنا سابقة لأوانها، لكنني أعتقد أنه يجب ألا يتحدد تفكيرنا في المرحلة الحالية، بل يجب أن نفكر في خطوات الخصم القادمة، كما يحدث في لعبة الشطرنج تماما؛ فهم يفكرون في مرحلة ما بعد الحرب على العراق، لكنهم خططوا لتغيير الخارطة السياسية للمنطقة العربية منذ زمن، ويجب أن تمتد نظرتنا لتشمل هذه المرحلة.
من هنا وجب التنويه إلى أنه مع اقتناعنا بتجربة غاندي، لكن يجب فهم الغاية منها، وهي ما ذكر "سريان روح العزة والكبرياء في النفوس"، وهذا لا يتحقق لنا نحن المسلمين إلا بتربية إيمانية جديدة عبر فهم مقولة عمر رضي الله عنه:"إنا قوم قد أعزنا الله بالإسلام.. فمهما طلبنا العزة بغيره أذلنا الله"، وقد أفرد ابن خلدون -رحمه الله- فصلا في مقدمته بعنوان "العرب قوم لا يصلحهم إلا الدين".
لذلك، استيفاء بأن أعطي الموضوع حقه أقول: لا مانع من الأخذ بتجارب الأمم الأخرى، لكن لا بد من الاعتزاز بديننا، وأن المستقبل له رغم كل حلكة الليل، ولنا في رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام خير قدوة عندما بشر سراقة بن مالك بسواري كسرى وهو مطارد من قريش؛ فلنتعلم الأمل من مدرسة رسول الله، ولنتعلم الزهد وترك البذخ والابتعاد عن التعلق بالدنيا وحب الرفاهية كذلك، وهنا بعض الأمثلة:
قال صلى الله عليه وسلم عندما قدم أبو عبيدة بمال الجزية من البحرين: "أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟" فقالوا: أجل يا رسول الله. فقال: "أبشروا وأمّلوا ما يسركم؛ فالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تبسط عليكم كما بسطت على من كان قبلكم؛ فتنافسوها كما تنافسوها؛ فتهلككم كما أهلكتهم" متفق عليه.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك". رواه البخاري.
ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أصاب الناس من الدنيا فقال: لقد رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه (الدقل: رديء التمر). رواه مسلم.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله عليه الصلاة والسلام على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء! فقال: "ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها" رواه الترمذي.
لذلك لا بد من العودة إلى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام بكل أبعادها الإيمانية والتربوية؛ فقد أخذتنا الدنيا بعيدا عنها، رغم أنها الثقافة الوحيدة التي تجمعنا كمسلمين في معسكر مضاد تماما لثقافة المتعة والمادة والاستهلاك، وأرى أنه من الواجب اعتمادها منهاج حياة منذ الآن كي نستطيع الصمود أمام الغزو القادم، وكي تعود لنا عزتنا وكرامتنا وهيبتنا بين الأمم.
هذا ما خطر لي أخي أحمد، وجزاك الله خيرًا وبارك لك في وقتك
وتقبل منا ومن جميع المسلمين أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
10/5/2025
رد المستشار
جزاك الله خيرًا على هذا التفصيل والتوضيح الذي ربما زاد النص الأصلي لمقال الجهاد المدني وضوحًا ووصولا إلى البعض من الذين غابت عنهم مقاصدة أو آفاق معانيه، وأحسب أن لدى الأغلبية منا إعاقات عميقة في فهم حقيقة وجوهر الإسلام ودعوته ورسالته للعالمين، وكذلك في فهم اللغة التي يتحدثها العالم اليوم، والمشاكل التي تشغل العاملين والمناضلين في سبيل إنسانية أفضل، ونتيجة لهذه الإعاقات المؤسفة فإننا ـ في الغالب ـ لا ندرك أن أهم مكونات المشهد الحالي هي تلك الحركة غير المسبوقة في تاريخ الإنسانية، والتي تجتمع على مناهضة الظلم والعدوان، والمصالح المادية العمياء، ووقاحة الإمبريالية الفاجرة التي تمثلها عصابة بوش بامتياز،
ونغفل أيضًا عن الدور المنتظر من المسلمين بأن يكونوا الخيط الجامع لهذه الحركة، والقوة الدافعة لها نحو المزيد من الفعالية في مواجهة الشر ليس من باب اعتزاز المسلم بخصوصيته فحسب، ولكن لأن هذه الحركات تحتاج إلى قلب وروح وارتباط بالله سبحانه على نحو أعمق من مجرد الدروشة التي نغرق فيها، والدروشة تعبير مصري أرجو أن يكون مفهومًا للجميع، وهو اختيار لفظي موفق اختاره الشهيد حسن البنا حين أراد التمييز بين الربانية والروحانية بالمعنى الإيجابي المطلوب، وبينها حين تكون مجرد أوراد تتلى، ودموع تنساب، وكلمات تقال دون عمل عام منظم لا ينفع الناس، ويعمر الأرض، وينهض بالحياة عليها في سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا فيها.
أغالب أحزاني هذه الأيام وأنا أرى هذه اللحظة النادرة تكاد تفلت من أيادينا بسبب سوء فهمنا، وعجز إدراكنا، وأود أن أصرخ ـ لو يفيد الصراخ ـ في الغافلين المحبطين المشوشين من أبناء أمتنا، المصابين بالصمم عن سماع ما يهم، وبالعمى عن رؤية ما ينفع وبإدمان إسلام مغشوش أصابهم، بالتخلف عن الدين والدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ولو كانت الهموم همًا واحدًا.... ولكنه هم وثاني وثالث ورابع.
على كل حال عندي أمل أن حركة جديدة تبدو في الأجيال الشابةعفوية، ولكنها واعدة، بعضها في أوساط ملتزمة دينيًا، وبعضها في أوساط متحمسة وطنيًا، وأدعوك إلى تأمل هذه الحالة الجديدة والتماس أخبارها، ومحاولة التواصل معها، فإن هذا أفضل للدين والنفس من البكاء على حال من لا يدرون ولا يدون أنهم لا يدرون، وأشكرك على تفاعلك ومساندتك فتقبلي دعواتي وتحياتي.