بداية.. أشكركم على جهودكم وجزاكم الله خيرا.
مشكلتي تتلخص في أنني أجد صعوبة في القيام بالأشياء اليومية العادية، مثل ترتيب الغرفة وتنظيفها، وقد أستغرق الساعات الطوال في قراءة كتاب مثلا، وإذا احتجت إلى كتاب آخر آخذه من مكانه دون أن أعيد الكتاب الأول فتتراكم الكتب ويصعب علي إيجاد الوقت لترتيبها، خاصة عندما أكون على أبواب الامتحانات. وهذا يغضب أمي وأنا أتفهم حالتها، ولكن إذا حاولت إصلاح الوضع وترتيب الكتب، أضيع أنا ولا أستطيع أن أتابع مراجعتي؛ لأنني أحتاج إلى كل تلك الكتب في وقت واحد وأعرف أين أجد ما أبحث عنه. فهل هناك طريقة أتعلم فيها كيف أكون أكثر انضباطا، وكيف أحافظ على الغرفة مرتبة؛ لأنه حتى إن قمت بترتيبها أنا لا تبقى على حالها سوى يوم، ثم تعود مثلما كانت.
والمشكلة الثانية: هي أنني لا أعرف كيف أنظم وقتي في الدراسة، فلا أقوم بشيء إلا عندما يقترب موعد تسليمه، أي في اللحظات الأخيرة، وكم حاولت أن أعمل بانتظام وأداوم على قسط من المذاكرة كل يوم، لكنني أجدني دائما أماطل في الواجبات التي يبعد تاريخ تسليمها؛ لأنني أعالج الملفات العاجلة كل يوم.
المشكلة الثالثة: هي أنني لست كزميلاتي وصديقاتي، لا أحب الترفيه، فلا أحب السينما ولا التلفزيون وفي أوقات فراغي أحب المطالعة والقراءة، فلا أجد الكثير من الأشياء أتبادلها معهن، وأخشى أن يعتبروني متكبرة عليهن، ولكن الحقيقة أنني لا أحب أحاديثهن السطحية عن الممثل الفلاني والمطربة الفلانية، واشتريت الفستان الفلاني وغيرها، فكيف أتصرف معهن دون جرح مشاعرهن؟ ولكنني أنجذب إلى أحاديث الرجال التي تدور عادة عن السياسة والدين وأمور أكثر أهمية، ولكنني خجولة ولا أحب إثارة اهتمام أحد. فما العمل حتى تصبح زميلاتي تتحدثن في هذه الأمور؟
أشكركم مجددا على مساعدتكم، وأتمنى لكم مزيدا من العطاء،
وفقكم الله وجزاكم عنا خيرا.
29/6/2025
رد المستشار
ابنتي،
ذكرتني رسالتك بقصة قديمة تعلمتها في طفولتي.. عن بجعة وثعلب تعاهدا على الصداقة والأخوة، وأن يذيبا ما بينهما من اختلافات، وكان أول دليل على ذلك أن دعا كل منهما الآخر على العشاء بعد يوم طويل من العمل.. ذهبت البجعة أولا إلى الثعلب وقد أعد لها كل جميل، ولكن لما حاولت أن تأكل وجدت أنه وضع الطعام في طبق مفلطح وبدأ يرتشفه بلسانه.. أما هي فلم تقوَ على ذلك بمنقارها الطويل، فاعتبرت هذا عيبا شديدا في الثعلب، وقررت أن تريه كيف يكون العشاء معدا على أكمل وجه، فلما ذهب إليها وجدها بكل سعادة قد وضعت الطعام في قارورة ذات عنق طويل يسمح لمنقارها بارتشافه، ولكن الثعلب لم يستطع ذلك وخرج من عندها مغاضبا وقد نقض ما بينهما من معاهدة.
هل فهمت شيئا؟ ليس الثعلب شريرا ولا بالبجعة عيبا، إنهما فقط مختلفان ولكل جماله!
تعرفت يوما على أحد أساتذة الكيمياء العضوية الفطاحل، ولما زرته في مكتبه في المركز القومي للبحوث وجدت مكتبه في فوضى عارمة، وكل شيء ملقى في كل مكان، فلما لمح الرجل حيرتي قال بابتسامة هادئة: على الرغم من الفوضى فأنا أعرف مكان كل شيء، وأستطيع الحصول عليه، وما يسعدني أن مكتبي في فوضى ولكن أفكاري مرتبة.
وأراك مثل ذلك يا ابنتي.. لا تحاولي أن تكوني شخصا آخر، لا أشجعك على الفوضى وعدم الترتيب، ولكني أرى أن أوان عدل ميزان العمل لديك قد تأخر وأصبحت لا تجيدين الإنتاج إلا بهذه الصورة؛ كل شيء ملقى حولك!
ويبدو أنك شخصية منتجة ومثقفة ومتفوقة، وربما بعد انتهاء الدراسة وعدم احتياجك للكتب تبدئي حياتك الأخرى بشيء من التنظيم، فتكون ملابسك ودواليبك وسريرك مثلا مرتبة، وهذه بداية أخرى وسيأتي وقتها بإذن الله.
وواضح أيضا أنك ممن يحتاج إلى كم كبير من الإدرينالين للإنجاز، ولا عيب في ذلك ما دمت تنتجين.. صحيح هو أداء متعب، ولكنه يؤدي إلى نتيجة، وأيضا أصبح ديدنا لأدائك، وأتصور لو تم إجبارك على المذاكرة من أول يوم وبترتيب فلن تحصلي كما ينبغي، ولن تحصلي على مثل هذه الدرجات التي تحصلين عليها في مذاكرة آخر لحظة.
على فكرة، أنا لا أشجع على هذه الطبيعة، ولكني أتأقلم معك على واقعك الذي لا أراه صوابا أو خطأ؛ بل هو واقع مختلف.. هناك وقائع أفضل، ولكنها بالتأكيد أفضل لأصحابها الذين اعتادوها... ربما أنصحك فقط أن تحاولي تربية أبنائك في المستقبل على النظام والترتيب، فهو أسهل وأكثر انضباطا وأغزر إنتاجا وأقل ضغطا على الحواس والأعصاب، وأن تنتقلي أنت إلى مرحلة حياتك الجديدة بعد الدراسة إلى مرحلة أكثر ترتيبا؛ فهي ستكون بداية وصفحة تفتح لأول مرة.
نأتي إلى صديقاتك.. أقول لك: يا ابنتي، لا يملك المرء تغيير الأشخاص، فإذا كنت لا تملكين تغيير نفسك أصلا ولا طبعك، فكيف تريدين أن تغيري اهتماماتهن؟
أما أن تستكملي تجاوبك المجامل معهم حتى لا تفقديهم أو تبحثي عن صديقات يشبهونك، ولو أني لا أجد في الاهتمام بالموضة وشكل المطرب الفلاني والعلاني ما يسيء أو يشين إلا إذا أصبح هذا هو الاهتمام الوحيد اليتيم، ولكن أن يكون أحيانا وسط مجريات أحاديث أخرى عن السياسة والدين والمجتمع والمستقبل والبيت والزوج، فلا مانع من وجود مثل هذه الالتفاتات الأنثوية من آن لآخر.
وأنا مثلك محبة للقراءة لدرجة أنني كنت في شبابي الخالي من المسؤوليات أظل أقرأ ما يقرب من 18 ساعة يوميا، وآكل وأشرب والكتاب بين يدي... ومع ذلك فأنا لا أتضايق من هذه الحوارات التي تعتبرينها تافهة، وأتعجب من قارئ لا يحب السينما، فكأنك تقرئين نفس القصة بعيون قارئ آخر.. خذي الحياة ببساطة أكثر؛ ففي النهاية ستحصلين على ما كان قد قدر.
من الطبيعي أن تفضلي مجالس الرجال.. كل البنات تفعل ذلك؛ فهي إحدى الوسائل النظيفة للاستمتاع بصحبة الجنس الآخر وإشباع الرغبة في البقاء حولهم.. فهذه غريزة فطرية.. المشكلة الوحيدة هو ضبط قواعد الشرع في هذه النوعية من المجالس.
لست أعرف إذا كنت ساعدتك أو حتى أجبت عن سؤالك.. ربما لأني لم أر سؤالا، بل أفكارا منثورة، ولكن أنتظر منك رسالة تعلمينني بها إن كنت أجبتك أم لا.