وسواس التسمية والقِبلة ع.س.م.د RCBT الوسواس القهري الديني5
رابعا: الوسوسة في تكبيرة الإحرام.
تكبيرة الإحرام هي الركن الثاني من أركان الصلاة وهي كذلك الاستهلال الأول الظاهر للصلاة -مع تولي القبلة والقيام-، والوسوسة في تكبيرة الإحرام مشهورة، كتب عنها ابن قدامة المقدسي في صدر الفصل الثاني من رسالته في ذم الموسوسين عنوانا (في تردد كلمات من الفاتحة أو التشهد أو التكبير أو تكرير حرف أو الجمع بين قراءتين ونحو هذا) وقال أيضًا واصفا التردد في التكبير (ومثل تكرير الحرف بحيث يخرجها عن موضعها كقوله في التكبير: أكككبر وفي إياك: إياككك فهذا تكرير الكلمات غير ما في القراءة وإخراج اللفظ عن وضعه من غير ضرورة) كما أشار إلى المبالغة بالصوت (وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه) كذلك أشار الشعراني في تنبيه المغترين -كما ذكرنا من قبل- إلى الوسوسة في التكبير ضمن وساوس البدايات فقال (وتراه إذا كبر يقول: أك أك أك بار بار بار، وإذا أراد يقرأ يقول: بس بس بس أل أل أل هي، وإذا أراد يتشهد يقول: أت أت أت حيات، وإذا سلم يقول: أس أس أس ونحو ذلك كما هو مشاهد من أحوالهم)، وهذه كلها أمثلة من بعض الكتب التراثية المشهورة، فلا شكَّ أن الموروث الفقهي في وسواس تكبيرة الإحرام أكبر من هذا بكثير لأنها لا يمكن إخفاؤها -في المسجد على الأقل- فلابد تستدعي حكما فقهيا، خاصة وأن لتكبيرة الإحرام شروطا فقهية محددة لا تنعقد الصلاة بغيرها وهذا لا شك يرعب الموسوس عندما يعرفه فتجده يقول (رغم أنني كنت أكبر مثل الناس ببساطة وتلقائية أصبحت بعد الوسوسة أراقب نفسي كيف أكبر وقد عرفت الشروط فأقع في الشك).
الشروط الفقهية لتكبيرة الإحرام:
وبينما الشروط الفقهية لتكبيرة الإحرام رغم كثرتها (12- 15) تجتمع عند صحيح العقل تلقائيا وبكل بساطة كما سنرى، فإنها ليست كذلك عند الموسوس، فمن الفقه الشافعي جاء في الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع قوله: (والثالث من أركان الصلاة (تكبيرة الإحرام) بشروطها، وهي إيقاعها بعد الانتصاب في الفرض باللغة العربية للقادر عليها، ولفظ الجلالة، ولفظ أكبر، وتقديم لفظ الجلالة على أكبر، وعدم مد همزة الجلالة، وعدم مد باء أكبر، وعدم تشديدها، وعدم زيادة واو ساكنة أو متحركة بين الكلمتين، وعدم واو قبل الجلالة، وعدم وقفة طويلة بين كلمتيه، وأن يسمع نفسه جميع حروفها إن كان صحيح السمع، ودخول وقت الفرض لتكبيرة الفرائض، والنفل المؤقت وذي السبب، وإيقاعها حال الاستقبال حيث شرطناه، وتأخيرها عن تكبيرة الإمام في حق المقتدي، فهذه خمسة عشر شرطًا إن اختل واحد منها لم تنعقد صلاته)، ومن الفقه الحنبلي جاء في نَيْل المَآرِب بشَرح دَلِيل الطَّالِب قوله (فشروط تكبيرة الإِحرام اثنا عشر شرطاً: الأول: إيقاعها بعد الانتصاب للفرض. الثاني: أن يقولها بعد الاستقبال حيث شُرِطَ. الثالث: لفظ الجلالة. الرابع: أن تكون بالعربيّة للقادر. الخامس: لفظ أكبر. السادس: عدم مدّ همزة الجلالة. السابع: عدم مد همزة أكبر. الثامن: عدم واوٍ قبل الجلالة. التاسع: الترتيب بين الجلالة وأكبر. العاشر: أن يُسْمِعَ نفسَه جميعَ حروفِها إذا لم يكن مانع. الحادي عشر: دخول وقت الصلاة، وإباحةُ النافلة. الثاني عشر: تكبيرة المأموم بعد فراغ إمامه من الراء من أكبر.)، تأمل هذه الشروط يبين تآلفها وتزامنها بما يجعلها يسيرة بسيطة تلقائية التحقق، لكن المشكلة تحدث عندما يراقب الإنسان نفسه وبشكل أخص حين يكون مدققا في التفاصيل وراغبا في الوفاء بكل الشروط، والحقيقة أن حالة المراقبة تخرج العمل التلقائي من كونه عملا اعتياديا تلقائيا إلى حالة تشبه التعلم من جديد! ولذلك لا يستغرب قول مريض الوسواس لا أدري كيف كنت أكبر قبل المرض بشكل طبيعي!
الصورة السريرية لوسواس تكبيرة الإحرام:
من المهم التذكير بأن التكبير المقصود هنا هو تكبيرة الإحرام أي قول الله أكبر استهلالا للصلاة لرب العالمين، وليس قول الله أكبر في أي موضع آخر سواء داخل الصلاة أو خارجها، وتشمل أعراض الوسوسة في تكبيرة الإحرام مثالا لا حصرا:
1- الوقوف برهة قصيرة أو طويلة بعد التوجه للقبلة؛ استعدادًا للتكبير وانتظارًا للتركيز وصفاء الذهن تماما، ويؤدي ذلك في كل الأحوال إلى إطالة المدة اللازمة للدخول في الصلاة وإن بدرجات متفاوتة.
2- صعوبة التلفظ بالتكبير في صلاة الفرض خاصة.... ربما تصل إلى ألللللللـــه أكككككككبررررررررررر!! من شدة البطء والتلجلج.
3- التركيز على مخارج الحروف، والتكرار لإحسان ذلك.
4- الشك في وقوع التكبيرة موضعها من القلب أي الخشوع فيها، وبعضهم يشكُّ هل كبر أم لا؟؟ ثم التكرار.
5- رفع الصوت عاليًا بالتكبير..... وأحيانا أكثر من مرة!
ويمكننا من خلال الصورة السريرية تصور النموذج السلوكي المعرفي للوسوسة في تكبيرة الإحرام كما يلي: افتراضات وتوقعات مفرطة لكيف يجب أن تكون تكبيرة الإحرام مثلا شروط معينة يطلبها أو يتوقعها الموسوس من نفسه للتكبير للصلاة ثم إحساس أنه لم يفِي بالشروط، ثم تكرار، ثم شك، ثم تكرار، ثم شك.... ثم نطقها ببطء وتركيز، ثم شك، ثم تكرار بضغطٍ على مخارج الحروف.... ثم رفع الصوت عاليا بالتكبير.... ثم الشك ثم التكرار.... ولتوضيح المقصود هنا بالافتراضات والتوقعات المفرطة فإننا نجد الموسوس يريد استشعار اكتمال الشروط والاطمئنان لصحة وقوع التكبيرة، فيلجأ إلى مراقبة نفسه بينما الوسواس له بالمرصاد يلقي الشك بينه وبين دواخله فيعجز عن الثقة في أنه كبر بشكل سليم، أو أن التكبير لم يقترن بالنية أو لم يستشعره داخله كما يجب، أي أنه يشك في صحة التكبيرة، فيضطر للتكرار ثم التكرار ورفع الصوت بالتكبير.. وهكذا، ثم مع استمرار هذه المعاناة أول كل صلاة تبدأ علامات الخوف (والتحاشي) في صورة التوتر عند سماع الأذان أو اقتراب وقت الصلاة، ثم يمكن أن يظهر التلجلج والتردد في التلفظ بالحروف نتيجة لفرط الخوف من الخطأ والتوتر المفرط، وعادة ما يبدأ المريض في مقاومة نفسه محاولا الحد من تكرار التكبير (خاصة وأن هذا الشكل من الوسواس يصعب إخفاؤه طويلا)، ولا يفيد ذلك غالبا مع الأسف إلا في زيادة خوفه من التكبير وشكه في قدرته عليه.
العلاج السلوكي المعرفي الديني لوسواس تكبيرة الإحرام
يبدأ العلاج بالتثقيف النفساني والفقهي فيما يتعلق باضطراب الوسواس القهري بشكل عام، ثم تستند مآلفة المريض مع العلاج هنا إلى توضيح نقيصتين متداخلتين في مريض الوسواس القهري يفهم المريض من خلالهما كيف تحدث ولماذا تستمر معاناته مع التكبير إحداهما هي نقيصة أو خلل عدم الشعور باكتمال الفعل، أو الشعور بأن شيئا ما ليس صحيحا تماما إ.ل.ص.ت وهو الدافع عادة للتكرار، فمن أشكال عدم الاكتمال عدم الاكتمال السمعي فالمريض يسمع صوته بالتكبير لكنه يشعر بنقصان شيء لا يستطيع تفسيره ولا يستريح إلا بتكرار التكبير، وأما النقيصة الثانية فهي نقيصة عمه الدواخل والتي يمكنه أن تحول بينه وبين استشعار الخشوع أو استحضار النية، أو حتى تذكر التكبيرة بعد الدخول في الصلاة كيف كانت، وعادة ما يجد المريض تفسيرا مريحا لمعاناته بعدما كان عاجزا عن وصفها، ثم يطلب منه تفصيل ما يحدث معه فيدفعه إلى الوسوسة في تكبيرة الإحرام، فمثلا يسأل من يتأخر في التكبير عن سبب انتظاره وما يسميه استعداده للتكبير فأحيانا يكون الشك في عقد النية وأحيانا يكون الخوف من الخطأ وأحيانا يكون وجود وساوس جنسية أو كفرية أو حتى عادية المحتوى، لكن محاولة طردها من الوعي محكوم عليها بالفشل، كذلك هناك من يشتكي من عدم القدرة على صرف الانتباه عن ما حوله من أصوات ليتمكن من التكبير كما يجب... إلى آخر ما يجب استبيانه من المريض وتعليمه إهماله، كذلك يسأل من يكرر أو يرفع الصوت بالتكبير عن سبب عدم اكتفائه بالتكبيرة الأولى أو سبب رفع صوته بحيث يحدد أين يهاجمه الشك أو ماذا يفتقد هل هو الشعور بوقوع أو صحة التكبيرة أو هو الشك في نطقها بشكل صحيح... أو أنه فعلا يخطئ في نطقها بسبب التوتر الشديد (وما يصفه المريض أحيانا بكأن شيئا يمنعني أو يعقد لساني)، ويشرح له سبب ذلك والأحكام الخاصة في حالته.
وبعد ذلك يتم تدريب المريض على الالتزام بما يلي:
1- إهمال الشروط القبلية أي قبل البدء بالتكبير كضرورة استحضار النية أو الخشوع.. إلخ.
2- التكبير والدخول في الصلاة مباشرة بمجرد تولي القبلة.
3- عدم الاهتمام بمراقبة التكبيرة، ولا بأي شك أو وسوسة فيها أثناء الصلاة أو بعدها.
4- الإحجام عن أي محاولة لتذكر كيف كانت التكبيرة، سواءً أثناء الصلاة أو بعدها.
5- الوسوسة في التكبيرة بالنسبة لك تعني أنك أحسنتها فقل دعاء الاستفتاح أو اقرأ مباشرة الفاتحة.
وغالبا تحدد طريقة العلاج ومستوى استخدام الرخص بشدة الحالة ومدتها الزمنية، ففي مرحلة مبكرة من وسواس تكبيرة الإحرام تكون مشكلة المريض غالبا هي التكرار و/أو رفع الصوت، وتضييع الوقت والجهد، ويكون الدافع وراء قهوره الاستباقية هو الخوف من وسواس يداهمه أثناء الصلاة أو بعدها بأن التكبيرة لم تصح أو لم تقع أو بطلت بشيء أو بآخر، وبعض المرضى يجدها في صلاة الفرض وليس النوافل، وفي جميع هذه الأحوال يكون التعرض هو التكبير والدخول في الصلاة مباشرة بعد قرار بعدم فعل أي من الأفعال الاستباقية التي يفعلها المريض بهدف التهيؤ والتثبت من الصلاحية للتكبير، ثم بعد ذلك إهمال وسواس أن التكبيرة لم تقع تماما بل اعتبار حدوث الوسوسة في التكبيرة دليلا على أنه أحسنها، ثم في حالة من يجد صعوبة في التركيز وصرف الانتباه عن الأصوات البيئية من حوله يكون التعرض بتعمد الصلاة في وجود الآخرين مثلا.
أما في المراحل المتأخرة من وسواس تكبيرة الإحرام فكثيرا ما تكون الإعاقة شديدة تصل إلى حد العجز التام أصلا عن التلفظ بتكبيرة الإحرام في استهلال الصلاة وليس مجرد التكبير بشكل مقنع للمريض، وفي مثل هذه المراحل قد نحتاج إلى رخصة العاجز عن التكبير -مرحليا- ويكون التعرض العلاجي هنا تعرضا للدخول في الصلاة دون تكبيرة الإحرام أي تعرضا للوسواس بأن التكبيرة لم تقع أو أن ذلك لا يصح... وما يحدث في التجربة العملية مع أغلب هؤلاء المرضى هو أن القناعة بأن إمكانهم الصلاة دون تكبيرة الإحرام ما داموا عاجزين عنها هذه القناعة تؤدي مع ممارسة الصلاة دون تكبير إلى زوال العجز عن التكبير... الإعفاء من التكبير هنا ليس هروبا من الوسواس، بل تعرضٌ له، وكثيرا ما يؤدي إلى تحسن الحالة.
من المؤكد أن التزام مريض وسواس تكبيرة الإحرام بالخطوات أعلاه لا يحدث ويكتمل بسهولة، فلابد أن يعود نفسه على تحمل الشك وطرحه (أي تجاهله) تماما، وعلى قبول وتحمل الشعور بعدم صحة التكبيرة وما قد يصاحبه من إ.ل.ص.ت وتجاهل كل ذلك، لهذا السبب نجد من المرضى من يكفيهم تغيير المفاهيم فيبدؤون مباشرة بالتطبيق الكلي ومنهم من يطبق بالتدريج لكنه يصل في النهاية إلى التكبير مرة واحدة بصورة طبيعية في غالبية أو كل صلواته، ومنهم من يتعثر في التطبيق استجابة للشك في كونه موسوسا أو مستحقا للرخص، وهؤلاء يحتاجون عملا سلوكيا معرفيا أعمق وتدعيما عقَّاريا في أغلب الأحوال.
وأخيرا يبقى السؤال هل تصح صلاة الموسوس دون تكبيرة إحرام، وقد أفتى بذلك وما يزال البعض يفتي به، ونحن لا نرى ذلك إلا في حالة تعذر استهلال الصلاة بالتكبير وتعذر فرصة العلاج في نفس الوقت وهو ما يندر أن نراه سريريا في حالات الوسواس القهري، لكن في الحالات الشديدة تمكن الصلاة -مرحليا- دون تكبيرة إحرام، باعتبار المريض عاجزا عن التكبير إذ يسقط التكبير عن العاجز عنه، وكما قالت د. رفيف الصباغ في ردها على إحداهن (لكن إن استطاع تحريك لسانه وشفتيه كالذي يقول: (الله أكبر)، دون إخراج صوت فعليه أن يفعل، فإن عجز حتى عن تحريك اللسان والشفتين فيكفيه نية الدخول في الصلاة دون التكبير...، فإن كانت –كما ذكرتِ- لا تخرج التكبيرة معك مهما وقفت وحاولت، فيمكنك الاكتفاء بتحريك اللسان والشفتين، أو ترك التحريك إن عجزت عنه أيضًا، والابتداء بالفاتحة فورًا) ومثل هذا الترخيص هو ما أشرنا إليه عند حديثنا عن طريقة العلاج في المراحل المتأخرة من وسواس تكبيرة الإحرام.
المراجع:
-1 ابن قدامة المقدسي (541- 620 هجریة). ذمُّ الموسوسین، القاهرة، الفاروق الحدیثة للطباعة والنشر، من صفحة (1 إلى 30)
-2 عبد الله ابن أحمد بن علي الحنفي الشعراني (1987). "تنبیه المغترین أواخر القرن العاشر على ما خالفوا فیه سَلَفَهُمُ الطاهر"؛ القاهرة، مصطفى البابي الحلبي.
3-الخطيب الشربيني، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
4- ابن أبي تغلب، نَيْلُ المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب، محمد سُليمان عبد الله الأشقر مكتبة الفلاح، الكويت
ويتبع>>>>>: وساوس الوضوء والصلاة ع.س.م.د RCBT الوسواس القهري الديني7
واقرأ أيضًا:
وسواس التسمية ثم التكبير ثم وسوسة × وسوسة! / استشارات عن وساوس البدايات