وساوس وقهور الصيام ع.س.م.د RCBT الوسواس القهري الديني9
خلفية فقهية ومفاتيح علاجية لوس.وق. الصيام:
إذا رجعنا إلى الأحكام الفقهية الخاصة بعبادة الصيام نجد يسرا كبيرا فقد ذهب الحنابلة والأحناف إلى أن للصوم ركناً واحداً، وهو الإمساك عن المفطرات، أما النَّيَّة فهي شرط عندهم، بينما ذهب المالكية والشافعية إلى أن النية ركن، فيكون للصوم ركنان: النية والإمساك عن المفطرات، فمتى تحققت الأركان صَّح الصوم حتى وإن ارتكب الصائم شيئًا من المحظورات، ومتى تَرَك ركنًا منها بَطَل الصوم حتى وإن أتى بشتى الطاعات، والمفطرات في منتهى الوضوح هي (الأكل والشرب عمدا، الجماع المتعمد، القيء المتعمد، الاستمناء المتعمد، السعوط (دقيق التبغ الذي يوضع داخل الأنف لاستنشاقه)، و الحيض والنفاس، والردة عن الإسلام، وكلها أفعال وأحوال أبعد ما يكون عنها الموسوس بالصيام... رغم ذلك فإن الموسوس غالبا ما يشك في صيامه إما لمجرد عدم معرفة بالأحكام أو وهو الأغلب لمعرفة معلومة فقهية أو سماع فتوى ما تشعر الموسوس بأنه كان على خطأ أو أنه لن يستطيع الالتزام بها.
العلاج يكون كالمعتاد في حالات الوسواس القهري أي بالت.م.ا (التعرض ومنع الاستجابة) إلا أن تطبيق ذلك لا ينصح به قبل ما يكفي من العمل المعرفي مع المريض بحيث نضمن مشاركته بعد استيعابه جيدا أولا ما يمثل خطرا حقيقيا على صيامه وما لا يمثل أي خطر، وثانيا لماذا يجب عليه كمريض وسواس قهري ألا يلتفت للشك وألا يقع في فخ التفتيش في الذاكرة، وثالثا لمفهوم الوساوس الحسية أو الإدراكات الحسية الكاذبة.
نستطيع من الناحية العلاجية رؤية وس.وق. الصيام على ثلاثة محاور رئيسية هي الأكل و/أو الشرب، أو الابتلاع، أو الاستنشاق، أو الشم، أو تتعلق بالنية وقطعها والتردد فيها، أو بحدوث ما يخشى من إبطاله الصيام سواء الأفكار أو المشاعر الجنسية، أو الصيام على جنابة أو مع وجود نجاسة في الثياب، أو حدوث وساوس شركية أو كفرية...إلخ، ومن وس.وق. الصيام ما يتحسن كثيرا بمجرد التدخل المعرفي ومنها ما يحتاج التدريبات السلوكية والتي يتفق عليها مع المريض كل بحسب وساوسه وقهوره الخاصة
فأما الاستنشاق أو الشم فلا يفطر بسببه أحد وعلى المريض أن يتعرض للمواقف الطبيعية التي يمكن أن يحدث فيها هذا مع تجاهل الوسوسة بالإفطار، وأما الابتلاع فإن القاعدة الأولى التي يجب ترسيخها في ذهن المريض هي مفهوم اليسير الذي يعفى عنه كنزيف اللثة والمخاط الخلف أنفي والتوافه كبقايا الطعام، والقاعدة الثانية هي أن ما لا يمكن الاحتراز منه لا يفسد الصيام ويشمل ذلك الاستنشاق والرذاذ وروائح الطعام، الريق والبلغم والنخامة والقلس، وفي الأربع الأخر اختلاف في الآراء بين المذاهب فهي إن مرت من الحلق إلى الجوف لا تفطر، لكنها إذا خرجت إلى ظاهر الفم ثم ابتلعت بعد ذلك تعتبر مفطرة في كل المذاهب عدا مذهب أبو حنيفة وهو ما نطلب من الموسوس بمثل هذا اتباعه، ومن الملاحظات هنا أن غالبية الموسوسين بحفظ الصيام لا يستطيعون التفريق بين الارتجاع (خروج بعض محتويات المعدة إلى المريء) والقلس (وصولها إلى الحلق والفم) وكثيرا ما يوقعهم ذلك في المزيد من المراقبة ومحاولات الاستشعار والتي كثيرا ما تؤدي يؤدي إلى خلل في الوظيفة الفسيولوجية للمعدة والمريء بما يزيد معدلات الارتجاع والقلس، لذلك فإن من الأمور المهمة بالنسبة للمشتكين من الوسوسة بالقلس وابتلاعه أن يسارعوا بالتدرب على تجاهله وعدم الاهتمام به لأن استمرار الخوف منه ومراقبته كثيرا ما يزيد حدوثه، خاصة وأن كثيرا من حالات القلس والارتجاع تكون بلا سبب عضوي معروف.
وأما الإثارة الجنسية أثناء الصيام فموضوع تشيع فيه تساؤلات الأصحاء والموسوسين على حد سواء، ورغم أن الإثارة الجنسية وحدها لا تفسد الصيام، حتى لو كانت متعمدة، إلا أنها إذا كانت متعمدة وأدت إلى إنزال المني، فهذا يُفسد الصيام، والكلام هنا يشمل الأعزب والمتزوج على حد سواء، وبالتالي فإن مجرد خروج المني لأي مثير مادي أو معنوي بشكل مفاجئ -كما ينتج عن فرط التحاشي في المرضى- لا يفسد الصيام، إنما يفسد الصيام –كما قال الشافعية (بالإنزال عن مباشرة) أي أن تتلامس بشرتان، بدون حائل، وتحصل الشهوة وينزل المني... والكلام أيضًا يشمل الجماع أو الاستمناء أو الاسترجاز المتعمد.
وأما خروجُ المَذْيِ من الصَّائِم فلا ينقُضُ صَومَه، على مذهَب الحَنَفيَّة، والشَّافِعيَّة، وبعض الحنابلة، لكنه مفطرٌ عند المالكية إذا كان خروجه بسبب لذة معتادة "مقصودة" وليس مفطرا إن خرج بلا لذة أو بلذة غير مقصودة، وبعد توضيح هذه الأحكام للمريض يذكر له أنها أحكام تيسر الأمر عليه رغم كونها كلها أحكام للصحيح وأنه غير مطالب لا بالتحاشي المفرط (والذي يصل إلى عدم الخروج من البيت أثناء الصيام) ولا بالمراقبة المستمرة لأحاسيسه الجنسية، وأن الوساوس مهما بلغت لا تفسد الصيام، وتشرح له كذلك مخاطر وسواس حفظ الصيام.
وأما بالنسبة للوسوسة في نية الصيام فإن عندنا من يوسوس في عقد النية للصيام وعندنا من يوسوس في حفظ النية أو اصطحاب النية أثناء الصيام، وفي الحالتين تشرح للمريض أسباب تعثره في النية والمتمثلة في القابلية العالية للشك ونقيصة عمه الدواخل وكلاهما يجعل من الصعب عليه التيقن من نيته أولا لأن التشكيك لا يتوقف وثانيا لأن ضعف القدرة على الوصول الواثق للمعلومات الداخلية يمنعه من ذلك، أي أن الموسوس معرض للشك دائما في نيته وعاجز عن التثبت مما في داخله من نية في نفس الوقت، وهو لذلك غير مؤاخذ لا بالشك في النية ولا التردد فيها ولا قطعها إلى آخر ذلك من مسائل فقهية يؤاخذ بها الصائم الصحيح العقل، ثم إن أبى الأخذ بأنه غير مكلف، نقول له إن إهمال الوسواس في النية أمر شرعي، والوسوسة في النية بعد الفعل لا يلتفت إليها، وفيما يتعلق بقطع النية فإن هناك اختلافا بين المذاهب بخصوصه فالحنفية والشافعية يقولون بأن من نوى قطع الصوم أثناء النهار، أو تردد في النية، ولم يأكل أو يشرب أو يفعل أحد المفطرات، فإن صيامه صحيح. في حين يقول المالكية والحنابلة بإفطار من نوى الفطر، والموسوس مأمور بتحري الحكم الأيسر في كل مذهب ولو بالتلفيق بين المذاهب حتى يبرأ من وسواسه، وكما تقول د. رفيف الصباغ -يرحمها الله- وقول الحنفية والشافعية إنما هو في حق السليم فما بالك بالموسوس الذي قال العلماء أن الأولى له الأخذ بأسهل الأقوال حتى يزول وسواسه؟ خاصة أن الوسواس يعني أن نية قطع الصوم تقتحم ذهنك دون إرادة وليست نية قطع حقيقية.
وأما الوس.وق. بخصوص حدوث ما يخشى من إبطاله الصيام سواء الأفكار أو المشاعر الجنسية فإن الجهد الأكبر سيكون موجها إلى منع المريض من سلوكيات التحاشي سواء الظاهرة أو المستترة وتدريبه على التصرف بشكل طبيعي أثناء الصيام سواء تعلق الأمر بالخوف من الشرب أو الأكل، فنجد تدريبات من قبيل (تعمد المضمضة بدلا من تحاشيها، تعمد عدم تجفيف الوجه بعد الوضوء، تعمد بلع البلغم والمخاط النازل من الأنف، تعمد لعق الشفاه "الرطبة" أو تنشيف الشفاه بفوطة مبللة، استخدام مرطبات الوجه نهارا، تعمد شم رائحة الشواء...إلخ. أحيانا تعمد دخول المطبخ، تعمد فتح الثلاجة أو حتى المرور من أمامها، أو تعمد لمس الزوج/الزوجة، وأحيانا لمس الأطفال الصغار، وفي بعض الأحيان يصبح مجرد الخروج إلى الشارع أثناء الصيام تدريبا سلوكيا في حالات فرط تحاشي المثيرات الجنسية، فيقال اخرج للشارع وتجول في السوق وتصرف بشكل طبيعي جدًا مع نفسك، ومع أخواتك وأصدقائك، ومع محارمك....، ولا حقا يقال له انظر عمدًا.... والمس نفسك وهؤلاء عمدًا.... واقرأ القرآن وما فيه من آيات النكاح... إلخ).
المراجع:
1. وائل أبو هندي، رفيف الصباغ، محمد شريف سالم ويوسف مسلم (2016) نحو فهم متكامل للوسواس القهري، البابُ الثاني: العلاج السلوكي للوسواس القهري، سلسلة روافد 138 تصدر عن إدارة الثقافة الإسلامية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دولة الكويت
ويتبع>>>>>: وساوس وقهور المبطلات ع.س.م.د RCBT الوسواس القهري الديني11
واقرأ أيضًا:
استشارات عن وساوس الصلاة / استشارات عن وساوس الصيام