أطباء سوشال ميديا Commercial social media doctors
مرت التجربة الإنسانية في حقل العلم بمراحل تطورية تراكمت عبر التاريخ، إلى أن خرج من رحم الفلسفة العلوم الحديثة بشقيها التجريبي والإنساني واللذان في رؤيتي الشخصية لا ينفكان عن بعضهما بل هما لصيقان مثل كمنجة ووتر، لا يمكنك العزف بأحدهما دون الآخر.
بعد ظهور التقسيمات التخصصية العلمية الناتج عن تراكم المعرفة وتعقيدات العلوم التي تتنامى بسرعة خيل راكض في مدينة مزدحمة، وثب جمع من الحاصلين على شهادة أكاديمية تحمل بكالوريوس الطب البشري ضربوا بكل التخصصات عرض وطول الحائط.
نرى طبيبا تخصص في التغذية العلاجية يدعي بدون أي منطق أو منهجية علمية أو برهان أن مرض مزمن مثل السكري ليس إلا خدعة كبيرة من صانعي المؤامرات، وأن هذا الطبيب اكتشف أخيرا العجلة!! التي تكمن في جهازك الهضمي، وتفسيراته لذلك مضحكة يسع أي طالب مجتهد تفنيدها بسهولة.
الأمر عنده لم يقف عند هذا الحد، بل وثب إلى بعيد، يقول بالحرف أن السبب الرئيسي لنوبات الهلع واضطرابات النوم وفرط النشاط وتشتت الانتباه هو أكل الدجاج! يقول بالحرف: MS و MDD وADHD وGAD وكل الاضطرابات العصابية والمناعية كذلك، الذئبة.. البهاق.. كرون... سببها الأساسي طريقة تعامل جهازك الهضمي مع الطعام!
عمل نظام غذائي "عقيم" غير مبني على أية أدلة سوى رأسه هو، يدّعي فيه الخلاص الكامل من كل تلك الاضطرابات، حتى الاضطرابات المناعية!، هو تقريبا لم يترك مرض إلا وادعى أن نظامه الغذائي المبتكر يعالجه جذريا، هو طبيب نرجسي بشكل فظ لا داعي لذكر اسمه! هؤلاء ربما يمتلكون لجانا إلكترونية تطبل لهم في التعليقات وتسهم في إحداث الضجيج.
هنا ربما نقول حالة فردية شاذة ستفنى بمرور الوقت، لكن الغريب أني وجدت جمع من الأطباء المعاتيه يروجون لنظامه الغذائي الذي يمنع فيه البيض والدجاج ويسمح به بالسكر الأبيض، العسل، التمور.... بلا حساب، حتى لو أنك تعاني من سكري.
صباح اليوم وجدت صرخة أم كادت أن تفقد طفلتها التي لم تتجاوز التاسعة بعد، بعد أن قررت أن تستغنى عن الإنسولين وتسير على خطى هؤلاء المعاتيه الفاقدين لأبجديات الميثودولوجيا. علّقت لها أم أخرى أن ابنتها ذهبت للرعاية المركزة بسبب نفس الطبيب.
جميع أطباء الأرض يعلمون يقينا أن الإنسولين من أهم الاكتشافات الثورية في تاريخ الطب. مثل هؤلاء الأطباء الذين أحب أن أسميهم أطباء سوشال ميديا التجاريون، لابد أن يحاكموا وتسحب منهم رخصة مزاولة المهنة. لابد من اتخاذ إجراء عاجلا تجاه مثل هؤلاء المعاتيه.
هذا نموذج طبيب آخر (مجموعة أطباء للأسف) تخصص في العلاج الطبيعي، يدعي أن فقرات العنق وعضلات الرقبة هي السبب الرئيسي للفايبرومايالجيا! مدعيا أنها تضغط على العصب العاشر مسببة الألم العضلي الليفي، والقلق والاكتئاب وأمور عصابية أخرى!
لا أدري من أي ثقب ينظرون وكيف يتحدث هؤلاء بمثل هذه الجرأة والنرجسية والدوجمائية بلا أي دليل أو منطق أو أبحاث من مجلات معروفة ذات تاريخ خال من المؤامرات والتمويلات الموجهة لترويج عقار ما.
وإذا ناقشنا أي فكرة من أفكار هؤلاء ستجد أنها سطحيًا ربما تحمل شيئا من الحقيقة لكنها مضللة ولا تعدو نقطة في بحر الميثودولوجي.
الغريب أن مثل هؤلاء مع اختلاف تخصصاتهم اتفقوا على شيئين فقط، Vagus nerve وNutritional attitude مما يدل على أن لهم نظرة كلية شمولية آلية بلهاء.
كما لو أنك ذهبت لكهربائي لتصليح الزر المسؤول عن الزجاج الخلفي لباب سيارة، يخبرك: أن المشكلة "كهرباء"! ثم يعطيك تفسيرا ميكانيكيا عاما إذا تم إصلاحه لن تعاني السيارة من أي مشكلة كهربية مرة أخرى. ثم تكتشف أنه يفكر في تركيب بكرة يدوية لرفع وإنزال الزجاج الخلفي ويدعي أنه بهذا يحل مشكلة الكهرباء نهائيا! من يفكر بهذه الطريقة كيف ستناقشه؟!
لي صديق فقد شعره قبل أن يتم العشرين من عمره، أصلع تماما، صلع وراثي جيني. أتمنى من هؤلاء المخابيل الذين يعالجون كل شيء أن يعيدوا له شعره.
ملحوظة؛ الفقرات العنقية وانحناء العمود الفقري والعقد العضلية في الرقبة، ربما تزيد من مثل هذه الاضطرابات سوءا، لكنها ليست مسؤولة مسؤولية مباشرة، وثمة اتجاه فيزيائي في الطب النفسي لكنه عبارة عن تحفيز مكمل للعلاج الكيميائي، بالأخص في الحالات المقاومة للعلاج الكيميائي. ولا توجد ورقة بحثية معتبرة على حد علمي تعاملت بهذه السطحية بادعائها العلاج الكامل أو حتى نسب مئوية معتبرة.
انظر اعتماد وكالة الدواء والغذاء الأمريكية لعقار سايكلوبنزابرين في صورته النشطة بجرعات محددة لعلاج الفايبرومايلجيا بنسبة إيجابية أكبر من أو يساوي 30%. الورقة نشرت في مجلة Pain medicine بتاريخ الثامن من يوليو الماضي، واعتمدت الوكالة الدواء في الخامس عشر من أغسطس الحالي. وهي وكالة معروفة بصرامتها المتعنتة في الاعتماد.
وعلى هامش الذكر إن متلازمة الألم العضلي الليفي لم تدرج إلى الآن في دليل المعايير التشخيصية للطب النفسي DSM-5 في تحديثه الأحير، رغم أن اعتماد عقاقير علاجها في المقام الأول كان دولكستين وبريجابالين وهي عقاقير تنتمي للطب النفسي، الذي سوف يدرج فيه الاضطراب على الأرجح، إلى الآن على حد علمي مدرج تحت تخصص الروماتويد أو الألم. لأنه من المنهجية ألا نتعامل بمثل هذه السطحية والجرأة طالما أن الملابسات السريرية غير كافية لإدراجه تحت تخصص الطب النفسي.
لذلك أرجو من نقابة الأطباء اتخاذ إجراء لتقنين سلوك الأطباء على السوشال ميديا، وسن قوانين صارمة رادعة، إذ أن هؤلاء بكل وقاحة يعبثون بحياة الآخرين لتحقيق انتشارا واسعا، أو فرض أفكار سطحية يجربونها على الآخرين بلا رقيب أو حساب. لو كنت أنتمي إلى هذا الحقل لقاضيتهم بتهمة الاتجار بالبشر حرفيا.
في حالة ترك الأطباء المنهجيون العقلاء مثل هؤلاء المعاتيه ينتشرون بهذه السرعة، ربما نرى طبا جديدا يعيد لصديقي شعره من جديد بنظام غذائي يعتمد على تدليك إصبع القدم اليسرى الصغير مع شرب كوب لبن كلبة بلدي قبل النوم.
واقرأ أيضًا:
مُدراء ADHD في البالغين نمط العلوئية والاندفاعية / مانيكان