المواطنة والعلاقة بغير المسلمين11
عندما جُمعت أحاديث رسول الله من ذاكرة الرواة بعد أجيال من النبي ﷺ وصحابته، وتطور علم الحديث والفقه، ثم وضع الفقهاء قواعد أصولية وقواعد فقهية يسترشدون بها في عملية استنباط الأحكام، وضعت قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، وبذلك تحول تحذير النبي ﷺ من أذى يهود المدينة في عهده والذي انتهى برحيلهم عن المدينة، إلى حكم شرعي مطلق وعام، ينطبق على كل اليهود والنصارى، وعلى كل المسلمين في كل زمان ومكان. إن أخذ النص معزولاً عن سياقه التاريخي والكلامي واستنباط الأحكام منه يمكن أن يوصلنا إلى نتائج مثل هذه. لم يَفُت بعض فقهاء الأمة ذلك، فنبهوا إلى أهمية اعتبار السياق لمعرفة ما تدل عليه الآيات والأحاديث، لكن المسلمين المتغلبين على اليهود والنصارى ما كانوا بحاجة إلى مراجعة الحكم الشرعي الذي سبق أن وضعه الفقهاء السابقون بناء على عموم لفظ أهل الكتاب أو اليهود والنصارى.
أما في زماننا هذا حيث نعيش عصر الضعف والذلة بعد قرون من الانحطاط وتفكك عرى الإسلام والاستعمار الأوربي فقد صرنا في حاجة حقيقية لمراجعة حكم تحريم بدء المسيحي أو اليهودي بالسلام، فهم لم يعودوا أهل ذمة عليهم الرضا بوضعهم لأنهم أمة مغلوبة عسكرياً. ومما يبشر بالخير أنه هنالك عودة وعي بأهمية السياق في استنباط الأحكام تتجلى بالكم الكبير من المقالات ورسائل الماجستير والدكتوراه التي تبحث هذا الموضوع وتؤكده من جديد، كما هنالك أيضاً من تجرأ من فقهاء هذا العصر ومفكريه الإسلاميين على إعادة النظر في هذا الحكم الذي لا يبدو منسجماً مع روح الإسلام، دين الرحمة وتأليف القلوب. ربنا لا يأمرنا إلا بالنافع لنا ولا يحرم علينا إلا الخبائث الضارة بنا، فما الضرر في أن نبدأ أصدقاءنا أو زملاءنا المسيحيين بالسلام؟
اعملوا بحثاً في القرآن الكريم واستعرضوا التكرار الكثير لأمر الله لعباده الصالحين أن يقولوا سلام، وحتى وهو يتحدث عن المشركين العرب يقول: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ{87} وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ{88} فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ{89}﴾ [الزخرف: 87-89]. أي مع أنه يؤكد أنهم لا يؤمنون ولا يجدي معهم الجدال يأمر نبيه ﷺ أن يصفح عنهم ويقول سلام، وهل تتصورون ربنا يقصد أن يصفح الرسول ﷺ عن المشركين المعاندين ويردد لنفسه كلمة سلام، وهي في أغلب المواضع التي وردت فيها في القرآن الكريم كانت تعني بوضوح سلام التحية.
إذن ليس تحريم بدء المسيحيين واليهود بالسلام من ثوابت الإسلام، وطالما هنالك فهم آخر للحديث الوحيد الذي ينهى عن بدئهم بالسلام، ليس متعسفاً ولا متكلفاً، وأغلب الظن أنه هو الحق، فليس على المؤمن حرج أن يبدأ أهل الكتاب بالسلام. الغريب أن الفقهاء أصروا على تحريم بدء أهل الكتاب بالسلام وبقي بدء المشركين من الأديان المختلفة والملحدين بالسلام على حاله، أي مباحاً، مع أن الله أعطى لأهل الكتاب مكانة خاصة ومعاملة خاصة في ديننا. علينا أن ننظر إلى الإسلام نظرة شاملة تأخذ كل أوامره ونواهيه ومقاصده بالاعتبار دفعة واحدة، وأن نكف عن الطريقة التجزيئية في النظر لمفردات ديننا، كي لا نقع بالتناقض. هل يعقل أن ديناً يسمح لك أن تتزوج مسيحية، وبالفطرة لا بد أن يكون بينكما المودة والرحمة، ثم يحرم عليك أن تبدأها بالسلام؟ لو كان هذا الدين وكتابه الكريم القرآن من عند غير الله لكان التناقض بين بعض مفرداته شيئاً طبيعياً ومتوقعاً: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً{82}﴾ [النساء: 82].
لقد لفت ربنا أنظارنا إلى إحدى آياته التي تثبت لنا أن القرآن من عنده وهي غياب الاختلاف والتناقض بين آياته، وسنة نبيناً مبينة ومفسرة للقرآن ولابد أن تكون مثله خالية من التناقض، إلا ما نتج عن انتقالها إلينا بروايات من الذاكرة وما حاول الذين يكرهون ديننا أن يدخلوه فيها من باطلهم. ما عليكم إلا أن تستعرضوا الأحاديث الموضوعة لتروا إلى أي حد هي تتعارض مع القرآن وثوابت السنة.
مــواطنون لا ذميــون
هاجر النبي ﷺ بعد أن أسلم من أهل المدينة عدد كبير، وما أن استقر به المقام حتى وضع ما يسمى صحيفة المدينة أو وثيقة المدينة، التي يقول عنها الدارسون: إنها أول دستور مكتوب في التاريخ. كان ما يزال كثيرون من أهل المدينة مشركين، وكان في المدينة ثلاث قبائل يهودية. الوثيقة نظمت العلاقات بين من يعيش بالمدينة من المؤمنين والمشركين واليهود. تبدأ الصحيفة بالقول إن المؤمنين المهاجرين من قريش والأنصار من أهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم أي انضم لهم في المدينة وجاهد معهم يشكلون كلهم أمة واحدة من دون الناس. «هـذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) (بين المؤمنين والمسلمين من قريش و (أهل) يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. أنهم أمة واحدة من دون الناس.» [وثيقة المدينة].
وبعد عديد من الفقرات المتعلقة بأهل يثرب العرب جاء ذكر اليهود وأنهم أمة مع المؤمنين، لهم دينهم وللمسلمين دينهم، وأن لليهود التابعين لدولة المدينة النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، والأسوة هنا تعني مساواتهم بالمؤمنين. يقول ابن منظور في لسان العرب: «والأُسْوَةُ والإسْوَةُ: القُدْوة.... والقوم أُسْوةٌ في هذا الأَمر أَي حالُهم فيه واحدة»، أي لم يكن اليهود في دولة المدينة ذميين لأن محمداً ﷺ لم يدخلها غازياً وفاتحاً، بل جاءها مهاجراً إليها، فرحب به فريق كبير من أهلها، وقالوا طلع البدر علينا. كان لابد للنبي ﷺ من أن يتولى أمر المدينة، فيكون القائم بشؤونها قيام الأمير أو الرئيس، لكنه كما أكد أكثر من مرة لم يكن ملكاً، ولم يتصرف كملك، ولم يتمتع بما يتمتع به الملوك عادة من ميزات. كان ولي الأمر في المدينة، دون أن يكون ملكاً، فقد كان الغريب يدخل المسجد، ومحمد ﷺ مع أصحابه لا يتميز عليهم بشيء، فيسأل هذا الغريب: أيكم محمد؟
المهم، عاش اليهود مع المسلمين سنين كمواطنين معترف لهم أنهم أمة، وأنهم لهم ما للمؤمنين، وعليهم ما على المؤمنين، أي المساواة التامة، ومعترف لهم بدينهم لا يتدخل فيه أحد {لهم دينهم وللمسلمين دينهم} [وثيقة المدينة].. وهنالك في مكة، وقبل الهجرة بسنين، نزلت سورة الكافرون، تعلن استقلالية المؤمنين بدينهم ومعبودهم عن دين المشركين وما يعبدون من آلهة ما أنزل الله بها من سلطان. قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ{1} لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ{2} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ{3} وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ{4} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ{5} لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ{6}﴾ [الكافرون]. لكم دينكم ولي دين أي لي ديني.
رحم الله سيد قطب الذي فهم منها وجوب البراء من الكفار، والمفاصلة عنهم، وعدم مداهنتهم أو مجاملتهم على حساب الدين الحق.. لقد فاته أن يلحظ أن الآيات التي تُظهر المفاصلة عن الكفار تعلن في الوقت نفسه الاعتراف بهم وبدينهم، لا على أنه حق، وإنما لهم الحق في عبادة من يشاؤون، وهم على دين مستقل ومنفصل عن الإسلام، لكنه دين، ومن حق أهله أن يعترف باقي المجتمع بهم وبه. وهكذا في هذا الزمان أتشارك أنا المؤمن الذي يقول لا إله إلا الله المواطنة مع من هم كفار برأيي، لكن لا أعبد ما يعبدون، ولي ديني ولهم دينهم، ولا حق لي أن أمارس عليهم أي ضغط أو إكراه بخصوص دينهم وعباداتهم. إنه اعتراف يشبه اعتراف دولة بأخرى في هذا الزمان، مع وضوح الحدود الفاصلة بين البلدين المتجاورين.
إذن هنالك في الإسلام شكل آخر للعلاقة مع غير المسلمين في بلادنا، ليس التعامل معهم فيه على أنهم مجرد ذميين حقوقهم مختلفة عن حقوق من عاهدوهم وقبلوهم في ذمتهم، وهو المواطنة التي تُلَخص حقيقة التشارك بالوطن على قدم المساواة والندية. وهذا النمط من العلاقة مع شركائنا في الوطن من غير المؤمنين الذي مارسه النبي ﷺ والأمة الإسلامية الناشئة، يرفع عنا في هذا الزمان أي حرج شرعي إن نحن رغم إيماننا والتزامنا قَبِلنا المواطنة المشتركة مع غير المؤمنين في بلداننا.
وبهذا تكون الدولة في سورية على سبيل المثال دولة للسوريين، لا دولة للمسلمين من دون الناس، وقلما تجد دولة في العالم جميع أهلها من دين واحد ومذهب واحد.. فحتى لو كان من أتشارك معه الحياة كافراً بحسب عقيدتي، فلا شيء يمنع أن أتعامل معه تعامل مواطن ومواطن في دولة واحدة، له ما لي وعليه ما علي. كما إنها ستكون دولة سورية، لا دولة إسلامية، لكن بمقدور المؤمنين السنة فيها أن يطبقوا ما شاءوا من ثوابت الشريعة الإسلامية على أنفسهم، لا على سواهم.
لما كان المسلمون فاتحين متغلبين على الشعوب التي تحول فيها غير المسلمين إلى ذميين قاموا بفرض أحكام الشريعة الإسلامية على الجميع بمن فيهم الذميون على اختلاف أديانهم، وإن كانوا تساهلوا معهم بالخمر والخنزير غير المحرمين في شرائعهم. لكن الحال مختلفة الآن، وللإسلام أحكامه التي تناسب حالنا الراهن. وهذا ما سأفصل فيه إن شاء الله في الفصل السابع عن التعددية في دولنا المنشودة، التي لن تكون دول مواطنة ولن تكون ديمقراطية حقاً إلا بالعلمانية أو بالتعددية الشاملة للتشريعات والقوانين إضافة للثقافة والسياسة.
واقرأ أيضًا:
كرامة المريض النفسي ــ محاربة الوصمة / رحلتي إلى علم النفس الإسلامي1
