![]() |
يقف على ضفة النهر، الماء يجري أمامه عذبا رقراقا، يسمع خريره، يرى انعكاس الشمس على صفحته، ويشم رائحة الطين المبلل على حافته، ومع ذلك يموت عطشا، ليس لأن الماء ملوث أو لأن يديه مقيدتان، بل لأن شيئا ما في داخله يمنعه من الانحناء والشرب، كأن بينه وبين الماء جدارا زجاجيا شفافا، يرى من خلاله كل شيء، لكنه لا يستطيع أن يلمس شيئا!
هذه ليست حكاية خرافية، بل واقع يعيشه كثيرون منا كل يوم، يقفون أمام ينابيع السعادة ويموتون ظمأ، يسكنون بجوار بحار المحبة ويشكون من الوحدة، يمتلكون كل أسباب الرضا ويغرقون في بحور السخط، العطش هنا ليس عطش الجسد للماء، بل عطش الروح لشيء لا تستطيع تسميته، لا تعرف كيف تصل إليه رغم أنه على بعد خطوة واحدة!
كم من الناس يملكون كنوزا لا يرونها، تحيط بهم النعم لكنهم يحسون بالحرمان، مفتوحة أمامهم أبواب السعادة لكنهم يقفون على العتبة مترددين خائفين من الدخول، كأن هناك صوتا خفيا يهمس في آذانهم: «لست جديرا بهذا»، أو «هذا أجمل من أن يكون حقيقيا»، أو «ماذا لو انتهى كل شيء؟»، فيختارون العطش المضمون على احتمال الارتواء المؤقت!
العطش قرب النهر له جذور عميقة في النفس البشرية، أحيانا نخاف من السعادة لأننا اعتدنا الألم حتى صار جزءا من تعريفنا لأنفسنا، نخشى أن نفقد هويتنا إذا تخلينا عن معاناتنا المألوفة، الحزن صار رفيقا قديما نعرف طباعه، أما الفرح فغريب مخيف لا نعرف كيف نتعامل معه، فنختار الرفيق القديم على الصديق الجديد، وأحيانا يكون العطش نابعا من شعور عميق بعدم الاستحقاق، صوت داخلي يردد: «أنت لا تستحق هذا الخير»، «هناك من هو أولى منك»، «السعادة للآخرين، أما أنت فقدرك المعاناة»، هذا الصوت القاسي يبني سدا نفسيا بيننا وبين النهر، نراه، ونسمعه، ونشم رائحته، لكننا نقف مشلولين، عاجزين عن مد أيدينا!
هناك نوع آخر من العطشى، أولئك الذين ينتظرون الكأس المثالية ليشربوا منها، هؤلاء يرفضون أن يغرفوا الماء بأيديهم العارية، يريدون كأسا من كريستال، في لحظة مثالية، وبدرجة حرارة مثالية، مع موسيقى مناسبة في الخلفية، ينتظرون ويخططون ويحلمون، وبينما هم غارقون في تفاصيل الطقوس، يجف حلقهم، وتذبل أرواحهم، والنهر يجري لا يبالي بأحلامهم.
الأكثر مأساوية هم أولئك الذين لا يرون نهرهم أصلا، فعيونهم مشغولة دائما بأنهار الآخرين البعيدة، ويقضون أعمارهم يحدقون في صور أنهار لن يصلوا إليها، يحسدون من يشربون من أنهار أخرى، ويشكون من ظلم القدر الذي حرمهم من الماء، بينما النهر يفيض تحت أقدامهم، لكن أعينهم المثبتة على البعيد لا تراه!
العطش قرب النهر حالة مُعدية كالمرض، فعندما يرى الأطفال الكبار يقفون عطشى أمام الماء، يتعلمون أن هذا هو الحال الطبيعي، أن الماء للنظر لا للشرب، أن العطش قدر لا مفر منه، فيكبرون وهم يحملون نفس الخوف، نفس التردد، نفس العجز المتوارث، وهكذا تتحول الضفاف إلى مقابر للأرواح الظمأى عبر الأجيال!
الحل يبدأ بالوعي، بإدراك أننا نقف فعلا على ضفة نهر حقيقي، أن الماء ليس سرابا، وأن العطش اختيار وليس قدرا، ثم تأتي الخطوة الأصعب، الشجاعة للانحناء، والتواضع لمد اليد، والجرأة للشرب حتى لو ارتجفت الأيدي، حتى لو لم يكن الطعم كما تخيلنا، حتى لو سخر منا العطشى الآخرون الذين يفضلون الموت على الاعتراف بحاجتهم للماء!
الأنهار يا أصدقاء لا تنتظر أحدا، فهي تجري بلا توقف، لا يعنيها إن شربنا أم بقينا عطشى، وحدها أرواحنا تعرف الفرق، تعرف طعم الندم المر على كل قطرة ماء رفضناها، وكل لحظة سعادة أجلناها، وكل فرصة للحب تركناها تفلت، فإلى متى سنقف على الضفة ننظر للماء.. ونحن نموت عطشا؟!
واقرأ أيضًا:
أسطول الصمود... وموج الندم! / دخان.. من غير نار!
