حتى لو مرض الإنسان في عقله، واضطربت الوظائف التي تميزه عن الحيوان، فإنه يبقى إنساناً له كرامته ويتوجب على الجميع احترامه، لأن الله كرم بني آدم جميعهم، ذكورهم وإناثهم، صغارهم وكبارهم، مؤمنوهم وكفارهم، أغنياءهم وفقراءهم، وأصحاءهم ومرضاهم، سواء كان مرضهم بدنياً أو عقلياً نفسياً.
لقد أعطى الله بني آدم ما لم يعط أحداً من مخلوقاته غيرهم. أعطاهم أدمغة متطورة إلى أبعد حد، فخلقهم في أحسن تقويم، وجعل حياتهم كلها بحثاً عن المعنى وسعياً لتحقيق المعاني في أنفسهم وفي واقعهم... بنوا آدم يدركون المعاني ويسعون إلى ما عظمت قيمته منها في اعتبارهم، ويتجنبون ما حقرت قيمته منها في نظرهم...
الحيوانات مفطورة على العيش والسعي من أجل الحفاظ على أنفسها حية معافاة، وعلى السعي إلى الحفاظ على أنواعها فلا تنقرض... أما البشر فإنهم مفطورون على هذه الدوافع ذاتها ومعها دوافع لم يحظَ بها غيرهم من المخلوقات، إنها الدوافع لتحقيق المعاني في أنفسهم.. وأهم هذه المعاني تلك التي تعبر عنها صفات الله وأسمائه الحسنى.. البشر مفطورون على الميل إلى الرحمة وإلى الكرم وإلى العلم وإلى المغفرة وإلى الانتقام، وإلى جميع صفات الكمال التي وصف الله بها ذاته بما في ذلك الكبرياء والعلوّ، لكن الله حرم عليهم الكبرياء والعلو وأعطاهم عوضاً عنها الكرامة.. فكرمهم على مخلوقاته كلها، وجعل الإنسان خليفة له في الأرض، يتمتع بإرادة حرة، ويعيش بعقله في آفاق لا تبلغها حواسه.
وكما للإنسان أعضاء وأجهزة، كالعين التي بها يرى، والأذن التي بها يسمع، والجهاز التنفسي الذي به يتنفس ليبقى حياً، والجهاز الهضمي والعضلي والبولي والتناسلي وغيرها، فقد أعطاه الله جهازاً عصبياً، دماغاً عجيباً في رأسه يصنع الأفكار والمشاعر ويدرك به ذاته والواقع من حوله.. وكما يمرض جهازه الهضمي مثلاً، فإن جهاز الشعور والتفكير والإرادة لديه قد يمرض ويصيبه خلل يجعل أداءه لعمله وتحقيقه لوظائفه مضطرباً وقاصراً.. إذا أصاب رئتيه علة تدهورت قدرته على التنفس، وإذا أصاب عضلة قلبه خلل عجز عن أداء ما كان قادراً عليه من نشاطات وأفعال، وهكذا إذا أصاب الخلل أي جهاز أو عضو آخر فيه.
وعندما يصيب الخلل شيئاً من دماغه، أو يختل توازن المواد الكيميائية فيه، أو تختل كهرباء المخ التي بها يعمل هذا الجهاز، فإن مشاعره تضطرب، وكذلك قدرته على فهم الأفكار وإنتاجها تضطرب، كما قد تضطرب قدرته على إدراك ذاته وإدراك ما حوله من موجودات... وقد تصيبه مشاعر الكآبة والحزن بلا سبب، أو تسيطر عليه أوهام لا أساس منطقياً لها، وقد يعاني من الهلوسات بكافة أنواعها، فيتشوه إدراكه لواقعه، فيرى ويسمع ويشم ويذوق ويلمس ما ليس له وجود، تماماً كما يحدث له في منامه يحدث له بعضه في صحوه ويقظته، فيرى الواقع مختلفاً عن ما هو عليه في الحقيقة، وبذلك يصيبه الخلل العقلي الذي يتدرج من مشاعر الخوف أو الحزن التي لا أسباب لها، إلى حالة يسميها البشر الجنون.. كل ذلك بسبب خلل يصيب جهاز الفكر والشعور والإدراك لديه، خلل يصيبه ومرض يمرضه دون اختيار منه، لكنها الحياة الدنيا فيها الصحة وفيها المرض وفيها الغنى وفيها الفقر، وفيها وفيها...
لم يتصور الإنسان أن أفكاره ومشاعره هي من صنع دماغه، بل نسبها إلى روحه التي أودعها الله فيه، لكن الروح من أمر الله الذي لا نقدر أن ندرك منه شيئاً، إلا أن نؤمن بوجوده كما أخبرنا ربنا... وهكذا يظن الناس أن من به خلل عقلي إنما خلله في روحه ونفسه إما باختياره أو لأن شيطاناً ركبه وأخذ يعبث به.
وعندما نرى غيرنا واقعاً في أخطاء في تفكيره أو شعوره فيها تراجع إلى ما يشبه الطفولة الأولى، حيث المنطق المعوج والعشوائي وغير ذلك من مظاهر الاضطراب في وظائفه النفسية والعقلية، وعندما نظن أن ما أصابه لن يصيبنا أبداً، فقد ننساق وراء مشاعر لا رحمة فيها، تدفعنا إلى السخرية منه والضحك عليه، وتقلل قدره في أعيننا، فنعتدي على كرامته التي أعطاها الله له كما أعطاها لجميع البشر... وقد لا نحترم آراءه ولا رغباته ولا إرادته، ونراه فاقداً لأهليته لكل ذلك، فنعطي أنفسنا حق التحكم به تحكماً يقوم على ازدرائه واعتباره بشراً ناقصاً لا يستحق ما يستحقه غيره من البشر من التقدير والاحترام والتكريم.
وهكذا صار المرض العقلي والنفسي وصمة يخجل الناس من اطلاع الآخرين عليها، وصار الناس ينظرون إلى المرض العقلي والنفسي لا كما ينظرون إلى المرض البدني، حيث يتعاطفون مع المريض البدني ويشفقون عليه ويواسونه ويساعدونه بما يستطيعون، دون أن يقل قدره عندهم، بل تبقى له كرامته ومكانته واحترامه.. المريض العقلي والنفسي محروم في كثير من الأحيان مما يتمتع به المريض البدني من احترام وشفقة والتماس العذر له والحماس لمساعدته.
لقد تقدمت البشرية واكتشفت الكثير مما كانت تجهله، ومن ذلك أن أغلب الأمراض العقلية النفسية إنما هي خلل عضوي في عمل آلة الفكر والإدراك والشعور، تصيب الإنسان ولا يستجلبها لنفسه، هو فيها مغلوب على أمره تماماً مثل المريض البدني، وصار علاج هذه الأمراض - مع أنها عقلية ونفسية - يتم في أغلب الأحيان بدواء يتناوله المريض، أو تنبيهٍ كهربائي لدماغه، أو غير ذلك من وسائل ما كان الناس يتصورون أنها قادرة على إصلاح الخلل والعودة بالمريض العقلي والنفسي إلى السواء وإلى طبيعته الأصلية.
ومما اكتشفه البشر أن الأمراض العقلية النفسية بما أنها أمراض كالأمراض البدنية فإنه لا أحد معصوم منها، بل كلهم معرض لأن تصيبه في يوم من الأيام. إن عِلْمنا بهذه الحقيقة المرة وعلمنا أن المرض العقلي سببه خلل في عمل أحد أجهزة الجسم البشري، لا يدع لنا مجالاً ولا مبرراً لأن نضحك ونسخر من بلاء أخ لنا في الإنسانية ابتلي به بغير إرادة منه، حتى لو بلغ حد الجنون أو العُتْه أو التخلف العقلي.
إن حفاظنا على كرامة المريض النفسي والعقلي ليس كرماً منا ومنّة نمنّها عليه، بل هو حق من حقوقه، لا ينبغي لنا أبداً أن نعتدي عليه ونحرمه إياه.
لا بد من أجل تحرير المرض النفسي والعقلي من الوصمة التي ارتبطت به، من إدراك طبيعة تلك الأمراض، وإدراك أنها قابلة للتحسن والشفاء، وأن العلاج مفيد فيها ويتطور كل يوم، كما لابد من العلم أنه ليس كل مريض نفسي أو عقلي هو إنسان خطير، لا يمكن أن نتوقع ما سيفعله، ومن الممكن أن يهاجم غيره في أية لحظة وبلا مبرر أو هدف، إلا تحقيق رغبة شريرة لديه.
المرضى العقليون النفسيون بشر مثلنا يحلمون بما نحلم ويتمنون لأنفسهم وأسرهم ما نتمنى، بل هم أضعف من الأسوياء، ومعرضون لأن يُظلموا ويُعتدى عليهم أكثر من الأصحاء عقلياً ونفسياً.
وبالمقابل إن الغالبية العظمى من أفعال العدوان على الغير وحتى الجرائم التي تقود إلى السجن، إنما يرتكبها أناس أصحاء لا يعانون من أي مرض عقلي أو نفسي، وإن كان حقاً أن هنالك جرائم نادرة يرتكبها بعض المرضى العقليين والنفسيين بسبب أوهامهم أو هلوساتهم، لكنها نادرة، وإن كنا نظنها كثيرة لأن الإعلام يُظْهرها بشدة عندما تقع واحدة منها.
ليس المريض العقلي النفسي أخطر من الأسوياء إلا في حالات قليلة، وليس الأسوياء مأمون خطرهم لمجرد أنهم أسوياء ولا يعانون من المرض العقلي أو النفسي... إن المرضى النفسيين العقليين هم إخوتنا جديرون باحترامنا وعطفنا ومساعدتنا لا بسخريتنا منهم وضحكنا عليهم وهضم حقوقهم.
واقرأ أيضا:
تأملات نفسية في الزكاة1 / أثر الصلاة في النفس المؤمنة4