في عالم الجريمة الرجل هو المجرم المدان والمرأة هي الضحية وهذه القاعدة الاجتماعية الإحصائية النفسية ثابتة لم تتغير عبر التاريخ وفي جميع المجتمعات. أما تعليل هذه الظاهرة فهو يخضع للعديد من النظريات العضوية البيولوجية والتطورية ناهيك عن نظريات اجتماعية ونفسية متعددة.
ولكن هذا لا يمنع من القول بأن عنف النساء تجاه النساء يتجاهله المجتمع وعلم النفس، وربما السبب يعود إلى أن عنف الرجال هو أكثر وضوحاً وانتشاراً وإثارة للإعلام والناس3.
الغاية من هذا المقال هو وضع موجز لأنواع جريمة القتل التي ترتكبها النساء والتي لها علاقة بالصحة النفسية والاجتماعية.
هناك عدة أنواع من جرائم القتل التي ترتكبها النساء منها:
١- الوأد Infanticide .
٢- جريمة قتل لا تختلف عن جرائم قتل الرجال.
٣- جريمة غسل العار Honour Killings .
٤- جريمة ناتجة عن اضطراب نفسي.
الوأد:
المصطلح المستعمل في الطب النفسي هو قتل الرضيع Infanticide أو الوليد الجديد4 Neonaticide هذه الجريمة لا يعاقب عليها القانون في معظم أنحاء العالم وفي عصرنا هذا لا يتم تنفيذها إلا من قبل الأمهات ولأسباب طبنفسية. معظم بلاد العالم لا تعاقب الأم وإنما ترسلها باتجاه مصحات الطب النفسي الآمنة من المستوى المنخفض Low Secure Units . يتم العلاج والتأهيل خلال عام أو أقل وتخرج المرأة لتعيش في المجتمع وتتسلم رعاية طبية نفسية منتظمة مع رفع الرقابة الطبية في المستقبل بعد حدوث حمل. البلد الوحيد الذي يتشدد في حساب الأم ومعاقبتها في هذه الجريمة هو الولايات المتحدة الأمريكية على خلاف بقية أقطار العالم الغربي.
فترة الحمل والولادة والسنة الأولى هي أكثر الفترات التي تصاب فيها المرأة باضطرابات نفسية. لا يوجد تصنيف يعمل به في الطب النفسي يفصل هذه الاضطرابات عن بقية الأمراض النفسية. ولكن القاعدة السريرية المقبولة هي ما بعد الولادة:
1- خلال 3 أيام تصاب المرأة بشجن الأمومة Maternal Blues .
2- خلال 3 أسابيع تصاب المرأة بالذهان النفاسي Puerperal Psychosis .
3- خلال 3 أشهر تصاب المرأة بالاكتئاب النفاسي Post-Partum Depression .
الغاية من هذا التصنيف هو لتبسيط القاعدة حول الفترة التي يمكن خلالها أو بعدها إصابة المرأة بالاضطرابات أعلاه. الشجن يحدث بعد 3-5 أيام والاكتئاب بعد 3-6 أشهر في الكثير من الحالات.
تكمن أهمية شجن الأمومة في أنه لو كان شديدا فإنه ينذر باحتمال إصابة المرأة بالاكتئاب النفاسي ودون ذلك يكاد يكون تجربة تمر بها معظم الأمهات.
إطار الأعراض النفسية الذهانية والاكتئابية ما بعد الولادة لا تختلف عن أعراض الاضطرابات نفسها في فترات أخرى ولكن محتواها يتوازى مع الحدث والذي هو وجود الطفل في حياة المرأة والذي يصبح هدف الأفكار الاكتئابية والوهام والهلاوس. في انخفاض مستوى البصيرة وغياب العلاج الطبي ودعم الزوج تتدهور الحالة الصحية وترتكب الأم جريمتها.
الدراسات الميدانية العلمية ضئيلة في ميدان الوأد وشرائح المرضى ضعيفة ولكن ما هو ملاحظ بأن 50% على الأقل من الأمهات يتم فحصهن من قبل طبيب نفسي قبل ارتكابهن الجريمة3. على ضوء ذلك يمكن تفسير فشل وقاية الطفل كما يلي:
1- عدم الوصول إلى التشخيص الصحيح.
2- حرج الأطباء والعاملين في الصحة النفسية من توجيه السؤال حول وجود أفكار عدوانية تجاه الرضيع.
3- الفشل في علاج الأم.
كل أم هذه الأيام يتم متابعتها بصورة منتظمة من القابلة العاملة في المجتمع ويتم التحري عن الأعراض الطبية النفسية من وقت مبكر وبصورة منتظمة.
الوأد ومتلازمة موت الرضيع المفاجئ Sudden Infant Death Syndrome
متلازمة موت الرضيع المفاجئ (م.م.ر= ممر) هو تشخيص طبي يشارك فيه أخصائي الطب الشرعي ولا يخلو من الإشكالات القانونية والطبية ويتم توجيه تهمة القتل المتعمد للأم أحياناً ولا يتم حسابها مثل المرأة المريضة نفسياً التي لا تنكر فعلها. م.م.ر يحصل قبل نهاية السنة الأولى للولادة وفي 90% من الحالات قبل ستة أشهر وأسبابه عضوية بحتة تتعلق بجذع الدماغ. يتعاون الأم والأب مع الجهات القانونية والطبية لتشخيص الحالة.
يحدث الشك بأن القتل المتعمد هو الحدث وليس م.م.ر في وجود العوامل التالية1:
1- عمر الطفل أكثر من ستة أشهر.
2- وجود الزراق في جسد الطفل.
3- وفاة التوأم.
4- تاريخ سابق مشابه.
5- وجود نزف في الفم والأنف.
أما لماذا يحدث القتل المتعمد للطفل الرضيع وعدم تصنيفه بالوأد قانونيا المصاحب للاضطراب النفسي؟.
فالجواب بسهولة هو استنتاجات الطبيب النفسي بعد فحصه للأم. إن أفتى الطبيب النفسي بأن الأم مصابة باضطراب نفسي من اكتئاب نفاسي أو ذهان نفاسي فستكون الجريمة هي الوأد ومعها العلاج أما إذا أفتى بأن الأم تعاني من اضطراب الشخصية الحدية أو المعادية للمجتمع وعدم وجود علامات مقنعة للاكتئاب والذهان فمصير الأم حينها خلف القضبان ولكن لأجل معين.
وأد البنات
وأد البنات في العصور الجاهلية والذي حرمه القرآن الكريم كان جريمة لا يعاقب عليها المجتمع وربما ينفذها الأب أكثر من الأم. كان يتم قتل الأنثى بعد ولادتها. ولكن هذه الظاهرة في العصر الحديث ظهرت وانتشرت بأسلوب جديد وهو إجهاض الجنين الأنثى.
تتفق جميع الأديان السماوية وغير السماوية على مساواة الذكر بالأنثى باستثناء عقيدة كونفوشيوس المنتشرة في الصين وبعض مناطق جنوب شرق اسيا. ولكن التخلص من الجنين الأنثى بدأ ينتشر في الهند وباكستان والعالم العربي أيضاً. التعرف على جنس الجنين أصبح في متناول الأم والأب وفي فترة مبكرة من الحمل مما يسمح للأم باتخاذ القرار في التخلص من الجنين شرعيا لأسباب طبية أو حتى غير شرعياً.
الإجهاض مسألة قانونية ودينية واجتماعية وسياسية معقدة تلعب دورها الفعال في عالم السياسة الغربي. الخريطة أدناه توضح شرعية الإجهاض الطبي والاجتماعي في العالم. اللون الأخضر يشير إلى أن الإجهاض غير قانوني أو قانوني فقط لحماية صحة الأم الجسدية. اللون الأصفر يشير إلى شرعيته في حالات خاصة مثل الاغتصاب.
اللون الأحمر يشير إلى شرعيته لأسباب اجتماعية أو حماية الصحة النفسية للأم.
أما اللون البنفسجي فهو يشير إلى الشرعية المطلقة.
الحقيقة هي أن ليس من الصعب التحايل على الأسباب والحصول على الموافقة الطبية لإجراء الإجهاض في جميع بلاد العالم.
حرم الإسلام وأد البنات ومن الصعب القبول بآراء بعض الرجال الدين المسلمين بجواز الإجهاض قبل نفخ الروح في الجنين بعد 120 يوماً من الحمل. لا يوجد أي دليل علمي يسند هذا الرأي والجنين كائن حي منذ اليوم الأول لتكوينه.
داء وأد البنات بدأ يؤثر على التركيبة السكانية في الصين والهند هذه الأيام ولكن رجال الدولة في حيرة للحد من هذه الظاهرة.
لا أحد يتهم الأم التي تتخلص من جنينها ولكن متابعة المرأة بعد الإجهاض يكشف عن معاناة نفسية ليس من السهل التعامل معها والانتقال منها إلى مرحلة جديدة في الحياة. هذه المعاناة النفسية لا تختلف تماماً عن المعاناة النفسية في أي فترة حداد ويمكن تقسيمها:
1- عملية حداد طبيعية مدتها قد تتجاوز العامين.
2- عملية حداد غير طبيعية تتميز بطول مدتها (أكثر من عامين ونصف)، شدتها (مشابهة للاكتئاب الجسيم)، وإطارها (مشابهٌ للذهان).
جرائم الشرف أو غسل العار
مهما كان حكم القانون المدني أو الشريعة الدينية في الزنا والخيانة الزوجية فإن عملية الإدانة وتنفيذ الحكم يجب أن يكون مسؤولية الدولة والقضاء. أما تنفيذ الزوج أو الأخ أو الأب أو الأقارب هذا الحكم فهو جريمة لا تختلف عن بقية الجرائم. ولكن حين نسمع بأن المجتمع يعظم مرتكب الجريمة والقانون لا يصدر أو يصدر بحقة حكم مخفف لا معنى له فيمكن الاستنتاج بأن المجتمع بأسره مجتمعٌ همجيٌ لا علاقة له بالحضارة الإنسانية.
جرائم غسل العار لا تقتصر على المجتمع العربي أو الإسلامي ولها موقعها في المجتمعات الأخرى مثل الهند وجنوب شرق آسيا. ولكن ما يهمنا في هذا المقال هو إصدار الحكم ومشاركة الأم في تنفيذه. هناك قضايا معدودة نسمع عنها ويتم نشر تفاصيلها إعلاميا.
الصورة الأولى من الغرب (بريطانيا) للضحية شفيلة أحمد ووالديها. رفضت شفيلة الانصياع لطلب أمها والعائلة بالزواج من رجل تم اختياره من قبل العائلة وبدأت الشكوك تحوم حول الفتاة. جمعت أبنائها الأربعة وخنقتها أمامهم. لم تذرف دمعة واحدة على ابنتها طوال أيام محاكمة لعدة أسابيع.
أما الثانية فهي من فلسطين للسيدة أميرة أبو حنان وهي أم لتسعة أطفال. انتشرت الشائعات ونميمة ربات البيوت عن سوء سيرة ابنتها. لكن هذه الجريمة تجاوزت كل المعايير. أمرت إخوتها باغتصابها أمامها وفعلوا ذلك وقطعت بعدها شرايين يد ابنتها وبكل برود.
ليست هناك ظاهرة تكشف ازدواجية المجتمع مثل ظاهرة غسل العار. الظاهرة بحد ذاتها هي أعلى مستويات السلوك الذي يعكس مفهوم كراهية النساء أو الذي أفضل أن أسميه بالميسوجينية Misogyny التي تعاني منها المرأة في جميع مجالات الحياة وفي مختلف المجتمعات. سيزور الموقع هذا المفهوم في المستقبل وهذا المقال ليس المكان الذي يجب مناقشة المفهوم فيه.
غسل العار يقتصر على النساء وفقط ولا أظن أن هناك جرائم غسل العار للواط بين الذكور واغتصاب الأطفال من ذكر وأنثى. الأشد هولا من كل هذا هو أن غسل العار يقتصر فقط على معاقبة طرف واحد وهي في الكثير من الأحيان وفي العالم العربي ضحية وغد من الرجال. لا أحد يحاكم الرجل ولا يتم تطبيق الحكم إلا على الضحية.
ولكن ما هو دور المرأة في تنفيذ هذا الحكم؟ لا توجد دراسات يمكن الاستناد عليها وربما الغالبية العظمى من الأمهات تسعى إلى حماية ابنتها خوفا من بطش الأبناء وأولاد العم وغيرهم من الذين يتصورون أن غسل العار عمل بطولي يرفع من موقعه المتدني في المجتمع.
ما بين عام 1989-2013 تمت دراسة 26 حالة فقط. 87% من الحالات من الطوائف الإسلامية والبقية لهندوس وسيك ويزيدين. 39% من الحالات شاركت المرأة بالتخطيط للجريمة ومن هذه قامت بالتنفيذ في 61% منها. أما في الهند فالتنفيذ النسائي كان 100%.
قصص النساء أعلاه غريبة من نوعها وهناك عدة احتمالات لتفسيرها:
1- شخصيات النساء أعلاه لا تختلف في إطارها عن شخصيات معادية للمجتمع تم كبح جماحها تحت ظروف اجتماعية خاصة. سنحت لها الفرصة في كشف شخصيتها المتعطشة للعداء عبر تنفيذ حكم الإعدام بابنتها الذي تتصور سيزيد من شأنها في المجتمع.
2- قوة المفهوم القبلي المتخلف في مجتمع يهوى النميمة ويؤدي إلى معاناة العائلة. ربما لا يوجد هناك نشاطٌ فكري وثقافيٌ يساعد أعضاء المجتمع على معالجة مشاكلهم بصورة متحضرة.
3- ربما هناك نزعة للتمرد في داخل الأم ضد التسلط الرجالي وغضبها من ابنة أثبتت لها بأنها لديها القدرة على مواجهة تحديات فشلت هي نفسها في معالجتها.
والله أعلم.
المراجع:
1- American Academy of Paediatrics: distinguishing Sudden Infant Death syndrome from Child Abuse Fatalities (2001). Vol. 108.
2- Kendell R, Chalmers J, Plate C (1987). Epidemiology of Puerperal Psychosis. BJ Psych 150: 662-673
3- Office Of national Statistics (2014 Chapter 2. UK.
4- Spinelli M (2001). A Systematic Review of 16 cases of neonaticide. Am J Psych 158:811-813.