ليت أولي الأمر، القادة والمسؤولين، والفصائل والأحزاب، والمقاومة والسلطة، وعامة الشعب والنخبة، يدركون أن الظروف الدولية والإقليمية لم تعد تخدمنا، وأن الأوضاع العامة القريبة والبعيدة لا تتوافق معنا، وأن قضيتنا الفلسطينية أخذت تنحو بعيداً، وتهمش كثيراً، وأن أحداثاً كثيرة باتت أهم منها وأكثر حضوراً، وتداعياتها أكثر خطورةً وأشد تأثيراً، فبعضها ينذر بحروبٍ دولية، وأخرى تهدد بتفجير أزماتٍ عالمية، تفوق من وجهة نظرهم القضية الفلسطينية وتداعياتها، رغم أنها كانت ولا تزال أم القضايا وسيدة الأزمات، حتى تجد طريقها إلى الحل العادل والشامل، الذي يحق الحق ويقيم العدل ويحرر الأرض ويعيد الحقوق.
لا شك أن الظروف العامة على اختلافها قد تغيرت، والسياسات الإقليمية والدولية قد تبدلت، ولم تعد المناخات القديمة سائدة، ولا الهموم القومية العربية طاغية، ولا الزعامات التاريخية موجودة، ولا القواسم العربية والإسلامية مقدرة، فما اعتدنا عليه قديماً لم يعد موجوداً، وما كان متوفراً سابقاً صار نادراً أو ممنوعاً، رغم أننا لم نستغل الظروف التي كانت أفضل، ولم نستفد من المناخات التي كانت لصالحنا أكثر، ولم نحقق شيئاً مما كان سهلاً وميسراً، وممكناً ومتاحاً، وإنما ضيعنا الفرص، وأهدرنا ما كان ميسوراً وموفوراً، حيث كانت دول العالم أمامنا مفتوحة، وسلاحها متوفر، وأموالها كثيرة، ودعمها السياسي معلناً وقوياً.
لا يدعونا هذا الواقع المتبدل والظروف التي غدت صعبة وقاسية، لأن نشعر باليأس والقنوط، أو أن نستسلم ونخضع، ونسلم بالواقع الصعب والمتغيرات الجديدة، ونلقي سلاحنا ونوقف مقاومتنا، ونقبل بالمتاح ونرضى بما كان ممنوعاً، ونوافق على ما كان محرماً ومستحيلاً، بذريعة أن العدو بات أشد ثباتاً وأكثر تمكيناً، وأقوى سلاحاً وأمتن تحالفاً، وأنه فرض على الأرض وقائع يصعب تغييرها أو إلغاؤها، إذ غَّيَرَ الحدود وأزاح الأرض، وبدل السكان وعدل في الديمغرافيا، ودمر بلداتٍ وبنى مستوطناتٍ، ورَحَّلَ سكاناً وَوَطَّنَ مهاجرين، وحقق اعترافاً وسَنَّ قوانين تشرع مستوطناته وتبيح سياساته.
ينبغي أن يدفعنا هذا الواقع الجديد نحو العديد من المهام، التي لا تقل واحدةٌ منها عن الأخرى، أو تتقدم عليها وتؤخرها، فلا أولياتٍ فيها، ولا تفاضل بينها، فهي مهام متزامنة ومترابطة، وتعاضد وتساند كل واحدةٍ منها الأخرى، ضمن منهجية واضحة ومباشرة، يفرضها الواقع الجديد وتتراجع أمامها التحديات الراهنة، ويخضع لها العقل ويقبل بها المنطق، كونها سُنة بشرية وناموسٌ طبيعي مرت بها الشعوب وعاشتها كل الثورات.
أولى هذه المهام الوطنية هي التصدي لهذا الواقع الجديد ومواجهته، والوقوف في وجهه وتحدي إرادته، والثبات على المواقف القومية والتمسك بالثوابت العقدية، والإصرار على الحق والامتناع عن تقديم أي تنازلٍ، على قاعدة راسخةٍ من الثقة واليقين أننا قادرون على التصدي والثبات، وتجاوز المحن والتحديات، وصناعة النصر ومراكمة الانجازات، فما من شعبٍ ثبت على مواقفه إلا وكوفئ بالنصر، وحقق ما يريد ونال ما تمنى، والشعوب التي صبرت واحتملت، وناضلت وقاومت، وتحدت وتصدت، سجلت اسمها في سجل الخالدين، وباتت تجاربها دروساً للمقاومين، وسفراً خالداً للثائرين.
أما المهمة الثانية فهي الأَوْلَى والأهم، والأجدر بالاهتمام والمتابعة، فعليها تعتمد النتائج ويتقرر الواقع، إلا أنها الأصعب والأخطر، وهي التحدي الحقيقي والمواجهة الأقسى، إذ أنها تتعلق بالداخل لا بالخارج، وبالنفوس لا بالأعداء، وبالنوايا لا بالأعمال، ولعلنا في مواجهة العدو أقوى وأصلب، نتحداه ولا نُغْلب، ونقاومه ولا نتعب، ولكننا في مواجهة نفوسنا وتحدي رغباتنا أضعف وأوهن، وأقل حيلةً وأوهى سلاحاً، تماماً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد عودته من إحدى الغزوات "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، لعلمه صلى الله عليه وسلم، أن مقارعة العدو أسهل من مقارعة النفس، وهزيمته أيسر من هزيمة النفس وإرغامها.
المهمة الوطنية الفلسطينية الثانية تتمثل في التصدي لمحنة الانقسام، ومواجهة خطر التشظي والضياع، والوقوف في وجه التشرذم والتمزق الذي بات يهدد وحدة الشعب الفلسطيني وقدسية قضيته، فقد طال أمد الانقسام، وساءت صورة الشعب الفلسطيني، وتشوهت قضيته، وتطاول عليه وعليها من يسوى ومن لا يسوى، وحق لهم ذلك طالما أنهم يرون أن سدنة القضية يسيؤون إليها، وقادة الشعب يهملون شعبهم ويتنكبون لهمومه، وينشغلون بالمنافع والمكاسب عن حاجاته، الأمر الذي يجعل من هذه المهمة مهمةً مقدسة، لها الأولية على سواها، وعليها يجب أن تنصب الجهود وتتركز المبادرات، وإلا تعمق الاختلاف واشتد النزاع، وتحقق الفشل، وذهب ريح الشعب والأمة.
أما المهة الثالثة والأولوية الطبيعية لشعبٍ ضحى وأمةٍ أعطت، وقضيةٍ صمدت ومسألة استعصت، فهو الاتفاق على برنامجٍ سياسيٍ وطني واضحٍ وجامع، يقبل به الشعب، ويعبر عن الأمة، ينسجم مع ماضيها ويتوافق مع تاريخها، ويحافظ على قيمها ويتمسك بثوابتها، ويعود بالقضية إلى الأصول الأولى والمبادئ السامية، التي على أساسها قامت الثورة وانطلقت المسيرة، ومضت على هدى من ميثاقها القويم سنواتٍ طويلة، تحدت العدو وأعيته، وأتعبته وأوهنته، فما نال منها ولا انتصر عليها، إلا عندما تخلى بعض قادة الثورة عن ميثاقها، وشطبوه بعض بنوده واعتبروها لاغية.
ما لم ينتبه الفلسطينيون ويستيقظ قادتها، ويستدركوا ما فاتهم ويتصدوا لما ينتظرهم، ويتحدوا الواقع المستجد حولهم، فإن القضية الفلسطينية ستكون في خطرٍ شديدٍ، وسيتهددها خطر الشطب والتصفية، وفرض الحلول الشوهاء والتسويات المستنكرة، ولن يغفر لهم الشعب جريمتهم، ولن ينس التاريخ خيانتهم، وكما يسجل بخيوطٍ ذهبيةٍ وعلى صفحاتٍ نوارنية، أسماء المقاومين الخالدين، الشرفاء المخلصين، فإنه سيسجل على صفحات الذل والعار، بحروفٍ سوداء وكلماتٍ مقيتة، أسماء المفرطين المضيعين، المهادنين المستسلمين، والمعترفين المطبعين، الأذلاء المهانين، الخاضعين الخانعين، الذين فرطوا بالحقوق وتنازلوا عن الوطن، واعترفوا بالعدو وسلموا له بما سرق ونهب.
بيروت في 4/2/2022
واقرأ أيضاً:
صحراء النقب الثائرة فلسطينية الهوية وعربية الانتماء5 / الإسرائيليون يتساءلون عن ماهية الحرب القادمة