سألت كثيرين ممن أعرفهم: ماالذي جعلك منبهرا بمسلسل جعفر العمدة؟ وكانت الردود متباينة بعضها تحدث عن الحبكة الدرامية، وبعضها تحدث عن براعة المخرج محمد سامي، وبعضها تحدث عن الموقف الإنساني في أب يفقد ولده ويبحث عنه لمدة 19 سنة، وبعضها ذكر براعة محمد رمضان في أداء الدور، وكلها عوامل قد تساهم في جماهيرية عمل فني، ولكن ما أجمع عليه الكثيرون هو شخصية جعفر نفسه، شخصية البطل الواثق من نفسه إلى حد الغرور، المتحكم فيمن حوله يحركهم كيفما شاء ووقتما شاء، المنتصر الغالب دائما، المهيمن على الأحداث يوجهها بإشارة من إصبعه وأحيانا بنظرة من عينيه، المتملك للمال من خلال المكسب السهل عن طريق الإقراض الربوي دون بذل جهد كبير، والقادر على استرداد حقه بذراعه في اللحظة التي يحددها هو، والقادر على قهر وإذلال وضرب من يفكر في الاقتراب من ممتلكاته أو يطمع فيه، ومع كل هذه القدرة والسيطرة والتحكم تبقى لديه نقطة ضعف واحدة استبقاها المؤلف كي يكسب بها تعاطفا مستمرا طوال الحلقات، وهي فقده لابنه الصغير ومحاولاته لمعرفة مكانه ومصيره، تلك النقطة الإنسانية الضعيفة التي غطت على نرجسية جعفر المفرطة، وعلى طمعه في النساء من حوله واستغلاله لهم لدرجة الاستعباد، وعلى أنانيته المتضخمة وذاته المنتفخة والمتورمة، وغروره واستبداده وتحكمه في كل من يقف في طريقه، وعدوانيته وبلطجته على الجميع.
قد يكون مسلسلا عاديا حرص عدد كبير من المشاهدين على متابعته، وسينسونه بعد فترة طالت أم قصرت، ولكن هذه ال "تيمه" الدرامية لها عمق ممتد في تركيبة الشخصية المصرية، "تيمة" البطل الفرد المنتصر، المتحكم، المسيطر، الواثق، المتفرد، وقد وردت هذه التيمة في أبوزيد الهلالي، وأدهم الشرقاوي، وغيرها من الأعمال الملحمية، وأعاد إنتاجها نجيب محفوظ بشكل عصري في حكايات حارتنا في نموذج الفتوة المتغلب المنتصر الذي يبهر أهل الحارة بقوته فينبهرون به ويضفون عليه كل الصفات المرغوبة في البطل لديهم مثل العدل والرحمة ورعاية الفقراء والدفاع عن حقوقهم وشيئا فشيئا تظهر الصورة الحقيقية للفتوة، وتتغير المشاعر تجاهه ثم تنقلب، ليظهر فتوة آخر جديد ينتصر على الفتوة القديم، ويبهرهم مرة أخرى بقوته وسيطرته وثقته بنفسه، فيبدأون معه دورة جديدة، تتكرر بعد فترة، وهكذا بلا نهاية. وقد رأينا البطل الفرد في كثير من الأعمال الدرامية مثل أفلام فريد شوقي (ملك الترسو)، أو رشدي أباظة (ملك الرومانسية وساحر النساء)، وعادل إمام (الزعيم )، حيث كان البطل الفرد المتفرد هو محور الارتكاز الوحيد، والباقين كلهم من حوله كومبارس يخدّمون عليه، أو يدلكون نرجسيته، ويمتدحون بطولته وقدراته الخارقة.
ومن الملحوظ في هذا العمل الدرامي، انبهار النساء بجعفر العمدة، كل النساء، بداية من الأم التي زرعت فيه الشعور الهائل بالأهمية، وجعلته بطلها وبطل الأسرة كلها، بل وبطل حي السيدة زينب كله، ثم زوجاته الأربعة اللائي عشقنه بجنون وبلاهة وخضوع واستسلام، وخضعن له بماسوشية منبطحة، وإن حاول المؤلف قرب النهاية أن يخرجهن من تحت سيطرته واحدة تلو الأخرى (ربما تحسبا لانتقادات الحركات النسوية أو المجلس القومي للمرأة)، ولكن حتى خروجهن كان يتم بإشارة من جعفر أو بكلمة منه أو بمجرد خلع دبلتها من إصبعه كناية على شعوره بتفاهة المرأة وتبعيتها وتملكها كشيء في حياته عبرت عنه إحدى زوجاته في لحظة انسلاخها المؤلم حين قالت: لا أقبل أن أكون مجرد كرسي في السفرة لدى جعفر.
وعلى الرغم من كثرة المشاهد التي تعتبر في حكم القانون والعرف أعمال بلطجة وانتهاك للقانون إلا أن النص الدرامي كان محابيا للبطل بحيث يسمح له بانتهاك الأعراف والقوانين، ويأخذ حقه بذراعه، وبإشارة من يده، ويحرك الجميع وفق إرادته، وينسحق الجميع أمام سطوته، ويصبح هو الرجل الوحيد، والذكر الشرقي الوحيد، والمهيمن الوحيد، والمنتصر الوحيد . وعلى الرغم من هذه السذاجة الدرامية، وهذه الغفلة الدرامية، إلا أن المشاهد كان منتشيا بهذه الصورة، ومبررا ومصدقا لها لأنها تخدم حالة من العبودية المختارة للبطل المنتصر المبهر في الوعي المصري العام، حتى وإن انتقده العقل والمنطق، وحتى إن خالف المعايير الأخلاقية والقانونية.
تستطيع أن تقول بأن المسلسل كان يمثل حالة من الفرعونية ذات الجذور العميقة في التركيبة المصرية امتدت لآلاف السنين تمجد البطل الفرد وتصل في كثير من الأحيان إلى تقديسه وعبادته، وهذا -ربما- ما اكتشفه صنّاع المسلسل فأرادوا أن ينبهونا إليه، ومن هنا يمكن أن ترى في المسلسل رؤية إصلاحية، من خلال تضخيم الحالة لدرجة المبالغة الشديدة في صفات البطل وخصائصه حتى تنتبه إلى خطورة هذه "التيمة" التاريخية المتجذرة في الثقافة المصرية وفي الشخصية المصرية التي عاشت تتغنى بالبطولة الفردية وتعليها على المنظومات المجتمعية والانتصار الجماعي. وربما يراه آخرون أنه يعلي من شأن البطل الفرد، ويغفر له كل خطاياه، ويدعو إلى أخذه كنموذج حياتي ناجح ومتحقق، ويصم الضعف والخوف والانسحاق والعبودية في نفوس الآخرين، ويعلن بأن قانون الحياة هو القوة وليس غيرها .
باختصار كان الجميع منبهرا بجعفر مستلبا في حبه وعشقه وهيبته وسطوته، وهي مايطلق عليه في علم النفس بعشق البطل حتى ولو كان معتديا أو متعديا، لأنه تحدث حالة من التوحد مع المعتدي فبدلا من أن تكون ضحيته، تتحول إلى عاشق له دون أن تدري فتعجب بانتصاراته، وبقوته وسيطرته وثقته وغروره وأنانيته وسلوكه الربوي، وكل عيوبه مهما كانت، فالناس في حالة الاستلاب أمام البطل المزعوم يغفرون له كل خطاياه ويبررون كل أخطائه وعيوبه، وهم لا يفعلون ذلك من أجل عيون البطل الغالب المتغلب المنتصر، ولكن من أجل عيونهم هم، فهم يرون أنفسهم في البطل المنتصر، ويعوضون ضعفهم في قوته، ويعوضون هزيمتهم في انتصاره، ويعوضون قهرهم في عزته، ويعوضون ماسوشيتهم في ساديته، ويعوضون خوفهم في جسارته، ويعوضون انسحاقهم في غلبته، ويعوضون انطفاءهم في تألقه، ويعوضون انسحابهم في إقدامه، ويعوضون ذلهم في عزته.
ومن هنا يتحول البطل الملحمي أو الدرامي إلى حالة يعيشها المشاهد ويرى نفسه في هذا البطل فيستوفي من صورته كل احتياجاته دون أن يبذل أي جهد سوى الانتظام في مشاهدة المسلسل الذي يبهره كل ليلة بأحداثه ويشوقه للحلقة التالية، ويحدث لديه حالة من شغف المتابعة والانتظار، وينسيه ما يلقاه في حياته من مصاعب ومتاعب، وهنا يسعد المؤلف والمخرج والممثل والمشاهد، وتترسخ مع الزمن صورة البطل في الوعي الشعبي كما وردت في أبوزيد الهلالي وأدهم الشرقاوي وفتوات نجيب محفوظ وأفلام فريد شوقي ورشدي أباظه وجعفر العمدة.
وأيا كانت قراءتك لدلالات المسلسل وإيحاءاته، إلا أن هذا لاينفي قدرة المؤلف والمخرج والممثلين على الأداء الدرامي المؤثر والجذاب الذي جمع الملايين حوله، وتبقى المسؤولية على المشاهد أن يوظف ما رأى وما سمع في الاتجاه الذي يريده أو ينفعه .
واقرأ أيضاً:
الزوجة الزنانة / الدعم النفسي للأشخاص في زمن الأوبئة والحروب3