إغلاق
 

Bookmark and Share

على باب الله: ما العمل ::

الكاتب: د.أحمد عبد الله
نشرت على الموقع بتاريخ: 06/06/2007


قالت لي: من يقرأ مدوناتك الأخيرة يقتنع بأنك تريدنا أن نهدم كل شيء، ونبني من جديد على أساس سليم!!
وجدتني أرد عليها قائلا: وهل بقيت لدينا أصلا أبنية حتى نهدم؟!!
ربما تكون صورة الهدم والبناء ليست هي الأمثل في فهم ما أقصده أو أتصوره، وأتأمل في تمثيل أفضل للإجابة على سؤال: ما العمل؟!
أعتقد أنه ليس عيبا أن نتعلم من فشل تجارب التحديث أو الإصلاح التي جرت على أيدي الأنظمة أو بعضها، وكذلك ما حاولته وتحاوله بعض النخب هنا وهناك.
الشهر القادم هو يونيو، وهذا العام تمر أربعون سنة على هزيمة يونيو، وهي مناسبة لاستعادة درس من أهم وأقصى الدروس في حياتنا المعاصرة، درس انكسار تجربة هامة ومؤثرة، ومحاولة متسرعة شريفة وجادة للإفلات من التخلف، وتجاوز التأخر، وإعاقة التنمية والثقافة، والعادات والتقاليد، وعلل المجتمع.

تجربة "عبد الناصر" جديرة بالدراسة وبالتعلم من جوانب القصور فيها، ومن انكسارها المدهش والمؤلم في 1967، وما يلي ذلك من تبعات وتداعيات واستحقاقات حتى وصلت مصر، ووصل العرب إلى ما هم عليه الآن!!

يجتاحني الأسى عندما أعلم أن ثمانية بالمائة من سكان العالم العربي في سن أصغر من الأربعين عاما، والأغلبية الساحقة منهم تكاد لا تعرف شيئا عن هذا التاريخ القريب، ومن لا يرى خلفه بوضوح لن يتبين الطريق أمامه، وسيتخبط غالبا، وهكذا نفعل!!

عقدت لجنة الشعر بالمجس الأعلى للثقافة تجمعا للشعر والشعراء، وخرجت أصوات معترضة كالعادة على أسلوب تنظيم أيام الشعر هذه، وأدانوا استبعاد فلان، أو مشاركة علان، أو إعطاء الجائزة لمن فاز بها!! وقرر بعضهم إقامة مهرجان بديل، وانعقد لتخرج بعض الأصوات قائلة: إن البديل قد خرج مسكونا بنفس عوامل الفشل، أو عيوب المهرجان أو النشاط الرسمي!!
وهذه حالة مثالية، وتصوير شديد الدلالة لما نحن فيه، حيث البديل مصاب بنفس آفات السمي، مع فارق اللافتات، وهذا مأزق مزدوج، ولنا الله!!
إذا كنا نسعى لتغيير فلا أحسب أن هذا يمكن أن يحدث بدون كسب كتلة يحتاج إلى فهم مكان الناس، وتفاصيل أحوالهم وظروفهم، وأين يقفون!! وممَ يعانون؟!!

إذن الانطلاق من أن النخب مريضة غالبا بنفس أمراض السلطة، والمجتمعات مريضة بنفس أعراض طول الاستبداد والقهر، والعزلة وضغوط السلطات المادية والمعنوية للمؤسسات الإعلامية والدينية، وسلطان العشيرة أو العائلة، وتضييق وطأة العادات والتقاليد، واضطراب المقاييس والمعايير مع ما زاد من نتائج دخول عصر التكنولوجيا الرقمية، وانفجار المعلومات ووسائل الاتصال، وحصاد ذلك كله من فوضى عارمة، ومعاناة شاملة تزيد وطأتها مع تفكك الدعم الاجتماعي والإنساني، ومع تآكل العلاقات بين الناس، ورحيل الدولة أو استقالتها من القيام بكل وظائفها تقريبا إلا التسلط والإفساد وإشاعة الجهل عبر أدواتها وأجهزتها!!

هذه هي الصورة باختصار، وتأجيل التعامل الجذري معها سواء في فهم المشكلات، أو التعامل معها أوصلنا إلى ما نحن فيه!!
هذه العلل المتشابكة تشبه حلقات مترابطة في سلسلة أو سلاسل أغلالنا التي تكبلنا، وتشكل حركتنا، وتعيق نهضتنا، مع التنويه بأن بعض التفاصيل قد تختلف من بلد إلى بلد، ولكن مجمل الصورة هو واحد!!

محترفو السياسة، وهواة العمل والتغيير في مستواه غافلون عن أن عقودا من القمع والإبذال، وبقية المنظومة التي تحكمنا قد عادت بنا إلى مرحلة "ما قبل السياسة"، حيث الانتماء هو للطائفة أو للقبيلة أو للعشيرة، والحاكم وراثي بالضرورة، ومغلق على عائلة أو عصابة قابضة، ورأس المال يلعب ضمن قواعد تضمن إعادة إنتاج نفس الفجوات الطبقية، ونفس الأوضاع الاجتماعية دون حراك يذكر، والدين بشقيه الرسمي والشعبي قد أصبح أقرب إلى الكهنوت الممسك بخناق الناس بدعوى المحافظة عليهم من الفتن، "ألا في الفتنة سقوطا"!!

البنية التحتية الأساسية لممارسة الحد الأدنى من السياسة أراها غائبة أو مغيبة، وأرانا في مساحة أجتهد في تسميتها "ما قبل السياسة"، ومنها إغراق الناس في مشكلات يومية طاحنة، والتباسات فكرية وقيمية معقدة مع غياب الحد الأدنى من الإنقاذ أو الدعم أو التكافل، والنتيجة أنه يبدو مطلوبا من كل إنسان تدبير شؤونه وحده في دنيا مؤثرة، وأوضاع جائرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه!!

طبعا الأقطار الفقيرة تعاني في إطار العوز والفاقة وانعدام الظروف الآدمية في حالة الأغلبية، لكن الأقطار العربية الغنية لا يتقلب أهلها في النعيم، بل لديهم مشكلات من نوع آخر، ومعاناة ذات ألوان داكنة أيضا، لأن قلة المال ليست هي مشكلتنا الوحيدة، ولا توافره هو الحل الأول والأخير، على أهميته في كل حال، كما في كل زمان ومكان!!

الاشتباك مع هذه الأوضاع يبدو بداية لأزمة، أي أن الحد الأدنى من التماسك والتكافل والتواصل والإنصات والتفاعل والمساندة بين الناس وبعضها يبدو مدخلا حتميا في تصوري- وبدونه سنظل ندور حول أنفسنا مثل طواحين الهواء ثم ندوخ ونقع... وهكذا!!

لدينا معركة كبرى أيضا لم يعد يمكننا تأجيلها، أو المزيد من الفرار، أو تجاهلها، وهي معركة وضعية ووظائف وحركية الدين في المجتمعات العربية، حيث نمط التدين السائدة آراءه لا يؤدي إلى خير غالبا، بل أراه جزءا كبيرا من المشكلة، ولا يمكن الوصول إلى تغيير إلا عبر المرور بهذه المساحة ومعالجتها، وهي مهمة شاقة وتحتاج إلى وقت وحشد جهود، وصبر طويل، ولكن لا مفر من مسألة هي حياة أو موت!!

مسار التوعية، ونشر الأفكار ينبغي أن يأخذ شكلا تعليميا بمعنى توصيل المعلومات الأساسية، والتدريب على المهارات الإنسانية المبدئية من حوار مفتوح، وتواصل سليم، وتفكير منهجي ومبدع، ولا ينفصل عن هذا استخدام وسائط الاتصال الحديثة في إرساء قيم وعادات وآليات ممارسة الحرية والعقلانية وتقاليد الاحترام المتبادلة بين المختلفين، وعلى أوسع نطاق شعبي ممكن.

لقد غفلنا لوقت طويل عن بقية السلطات المشوهة لحياتنا، وصرفنا أغلب طاقاتنا في مواجهة المتسلطين في السياسة، بينما أهملنا مساحات الأكاديميا والإعلام والأفكار والممارسات الدينية، وتشابك هذا كله مع العادات والتقاليد، وحتى الترويح والترفيه، لقد سكتنا وانشغلنا عما يحصل في هذه المساحات، ومنها نؤتى!!

ربما إذا كان حضور الناس صار حتما، وهو حتمي دائما لنجاح أي تغيير، تعلما من درس يونيو 67 على الأقل!!
إذا كنا نريد حضور الناس فإنه لا سبيل إلى التغيير إلا عبر المرور بالمجتمع وقضاياه وأمراضه، وكذلك إمكانياته من طاقات شابة هائلة، ولكن مبعثرة، وعزائم تتألق حين تجد البيئة الملائمة، ورؤوس أموال تتدفق مع زيادة عوائد النفط والسياحة، ورأس مال اجتماعي وثقافي محلي، وآخر مهول يتمثل في الجاليات العربية والإسلامية بالخارج.
هذه كلها إمكانيات ضخمة لكنها مهملة، مبددة لا يلتفت إليها أحد، ويكاد لا يستثمرها غير أصحابها الأفكار الرأسمالية في الترف والاستهلاك، ولكل هذا مسارات أخرى مختلفة وممكنة، وإذا ما صح العزم يتضح السبيل.
15/05/2007

واقرأ أيضًا:
الله: الطريق إلى بودابست / على باب الله بودابست  / على باب الله: وداعا بودابست / على باب الله: بنية وبيئة / على باب الله رسل النور/ على باب الله: إفتكاسات:29/ 5/2006 / على باب الله: أنهار سرية /على باب الله من منازلهم، وموقعي المفضل / على باب الله قطار الليل والنهار / على باب الله العيش موتا في أوطان تنتحر / على باب الله: دماغك فين؟!!على باب الله: قالت لي  / على باب الله عن التركيز والنسيان 7/10/2006 / على باب الله: الإيمان؛ قصة ومناظرعلى باب الله: ماذا نقول إذن؟!  / على باب الله: أنا والجهاد وزويل!!  / على باب الله: وطن في التيه / الإعلام وصناعة تاريخ بديل 15/10/2006  / على باب الله: رائحة العيد
 / على باب الله: غاوي شعب!! / على باب الله: خرائط العشق القاني / الإعلام، وصناعة تاريخ بديل / على باب الله: الحوت صديقي / على باب الله: هل أغنى للبطاطس؟! / في مديح المغاربة.... المصرية رائدة مشاركة / على باب الله: طعانون وسماعون / على باب الله: تأملات أندلسية / على باب الله: نتغزل في الحرية، وكلنا عسس / على باب الله: بيداء الوحدة والحرمان  / العزلة طبعاً: هل هناك اقتراحات؟!  / على باب الله: ذات البين 3/3/2007 / على باب الله: بريدي مخترق!! / على باب الله: لماذا ننهزم أمام الشر؟؟ على باب الله: الهروب  / على باب الله: زائدة دودية / على باب الله: المقامة الظِّبيانية / على باب الله: أخانا الذي في الشمال



الكاتب: د.أحمد عبد الله
نشرت على الموقع بتاريخ: 06/06/2007