التعمق في العبادات ع.س.م.د RCBT الوسواس القهري الديني23
   
 ثانيا التعمق في إحسان العبادة:
 وأما التعمق في إحسان العبادة فيتعلق أساسا بوساوس وقهور التهيؤ للعبادة أي الإفراط في تطهير الجسد أو الثوب أو المكان من النجاسة بما يسبب أذى أو معاناة معتبرة وكذلك الإفراط في تحاشي النجاسات المحتملة، أو يتعلق بوس.وق. أداء العبادة، ومن المهم بداية مناقشة مفهوم العبادة ووظيفتها في حياة المؤمن وصولا إلى الاتفاق على أن إضافة العبادات إلى برنامج الحياة اليومية للشخص الصحيح يجب ألا يمثل عبئا أو معيقا بأي شكل لذلك البرنامج هذا إن لم تؤدي إلى تحسين جودة تلك الحياة، بالتالي عندما تستهلك العبادة المفروضة من شخص ما وقتا أو جهدا واضح الزيادة مقارنة بالآخرين يجب أن تتم مراجعة ذاتية أو بمساعدة المعالج بحثا عن السبب وراء تلك الإعاقة، وهدف المراجعة هو اكتشاف المعايير التي يضعها المريض لما يجب أن تكون عليه عبادته، ثم مقارنتها لاحقا بالمعايير المطلوبة شرعا من الشخص العادي أو صحيح العقل.... فإذا أقرَّ المريض بذلك سألناه ماذا يتوقع أن يكون مطلوبا من المريض؟
  
 - كما نجد التخفيف نهيا عن ذلك النوع من التعمق في التطهر بمحاولة التخلص 100% من كل أثر النجاسة مثلا عن أبي هريرة رضي الله عنه:   ((أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ يَسَارٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِي إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَأَنَا أَحِيضُ فِيهِ فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: إِذَا طَهُرْتِ فَاغْسِلِيهِ، ثُمَّ صَلِّي فِيه». فَقَالَتْ: فَإِنْ لَمْ يَخْرُجِ الدَّمُ؟ قَالَ: يَكْفِيكِ غَسْلُ الدَّمِ وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُه)) رواه أحمد وأبو داود. وهذا الحديث يدعم قاعدة أنه ليس علينا إلا ما نستطيعه، أما ما يشق ويتطلب جهودًا زائدة لا نستطيعها إلا بصعوبة بالغة، فلا يطلب في التطهير... ولما كانت التطهر من النجاسة 100% في حكم المحال مجهريا فإنه غير مطلوب، ومن نفس مبدأ المشقة تدخل جميع المعفوات من النجاسات كلها، وإن اختلف تحديدها بين المذاهب.
  - وجاء في الأثر عن ولد الإمام زين العابدين –رحمهما الله تعالى-أنه قال له والده يوما: يا بني اتخذ لي ثوبا ألبسه عند قضاء الحاجة، فإني رأيتُ الذباب يسقطُ على النجس في الخلاء ثم يقعُ على الثوب، فقال له: إنه لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثوبٌ واحد لخلائه وصلاته، فرجع الإمام عن ذلك.    (ذكره ابن القيم في إغاثة اللهفان).
  
  وقد رويت أحاديث كثيرة في النهي عن التعمق في تحري طهارة الجسد نجد مثلا:
  - الإسراف في الوضوء: عن عبد الله بن عمرو بن العاص    ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ)) رواه أحمد وابن ماجه.
  وقال الإمام البخاري في صحيحه: (بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ فرض الوضوء مرة مرة، وتوضَّأ أيضًا مرتين وثلاثًا، ولم يزد على ثلاث، وكره أهل العلم الإسراف فيه، وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله عليه وسلم).
  وقال ابن القيم في كتابه زاد المعاد:    (وكان- أي النبي صلى الله عليه وسلم- من أيسر الناس صبًّا لماء الوضوء، وكان يحذِّر أمته من الإسراف فيه، وأخبر أنَّه يكون في أمته من يعتدي في الطهور).
  وعن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:    ((يُجْزِئُ مِنْ الْوُضُوءِ مُدٌّ، وَمِنْ الْغُسْلِ صَاعٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَا يُجْزِئُنَا، فَقَالَ: قَدْ كَانَ يُجْزِئُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ وَأَكْثَرُ شَعَرًا، يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) رواه ابن ماجه.
  وقد قال رجل لابن عمرَ:    (إِنِّي أَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُسْلِ، قَالَ:    (لَقَدْ تَعَمَّقْتُ). رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما، وذكرهُ المتقي الهندي في كنز العمال.
  
  كما يمكن أن يتعلق التعمق في إحسان العبادة بإطالة الصلوات، أو أوقات التعبد أو وضع شروط خاصة إلى آخر ذلك من الصور الممكنة والتي لابد قبل الحكم على أي منها بأنها ظاهرة مرضية من التأكد من تعارضها مع الحياة الطبيعية نتيجة الالتزام أو التشدد المفرط أو غير المناسب بشأن العبادة ومن انطباق أعراض الاضطراب الوسواسي.
  
  ويتداخل التعمق في إكثار العبادات بالتأكيد مع التعمق في إحسانها بلا شك كما يتداخل مع الإكثار الصحي والطبيعي في العبادات، لذلك فإن الإكثار المقصود هنا لابد أن يتجاوز الحد بحيث يَشُقُّ على النفس، ويُفْضِي بها إلى الهلاك، إذ يُلْزِم المريض نفسَه بالقيام بما يَقُودُه إلى تضييع غيره من الحقوق التي أوجبها الله عليه، كحق النفس في الراحة، وحق الأهل في القيام عليهم، وغير ذلك، بل وربما أدى إلى الإضرار بجسده إنهاكا، فيَعْجِز عن القيام بما ألزم به نفسه، والإفراطُ في الشَّيءِ يُفضي إلى تَركِ ما هو أفضَلُ منه؛ فالإفراطُ في قيامِ اللَّيلِ والتَّشديدُ على النَّفسِ فيه، قد يُفضي إلى النَّومِ عن صلاةِ الفَجرِ في جماعةٍ. وقبل كل ذلك فإن الإفراطُ في العبادةِ يُفضي إلى المَللِ والسَّأمِ.
  
  ومن النصوص الشرعية التي تفيد في إيضاح النهي عن مثل تلك السلوكيات:
  عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:    ((إن الدَّين يُسرٌ، ولَنْ يُشادَّ هذا الدَّينَ أَحدٌ إلا غَلَبَه، فسدِّدوا، وقارِبوا، وأَبشِروا)) رواه البخاري. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ:   «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى» رواه البيهقي.
  
  قال أنس بن مالك رضي الله عنه: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ:    "أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي" رواه البخاري.
  
  ومن ذلك ما حدث مع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما -فيما رواه البخاري- حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:    "يا عَبْدَ اللَّهِ، ألَمْ أُخْبَرْ أنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وتَقُومُ اللَّيْلَ؟"، فَقُلتُ: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ قَالَ:    "فلا تَفْعَلْ صُمْ وأَفْطِرْ، وقُمْ ونَمْ، فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ بحَسْبِكَ أنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ، فإنَّ لكَ بكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أمْثَالِهَا، فإنَّ ذلكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ"، قال عبد الله: فَشَدَّدْتُ، فَشُدِّدَ عَلَيَّ قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ إنِّي أجِدُ قُوَّةً، قَالَ:   "فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السَّلَامُ، ولَا تَزِدْ عليه"، قُلتُ: وما كانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السَّلَامُ؟ قَالَ:   "نِصْفَ الدَّهْرِ"، فَكانَ عبدُ اللَّهِ يقولُ بَعْدَ ما كَبِرَ: يا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
  
  وبينما يتعلق ما سبق بالإفراط أو الإكثار من العبادات المشروعة فإننا مع كل من مريض اضطراب الشخصية القسرية أو مريض الوسواس القهري قد نجد قهورا تعبدية مما لم يُشْرَع في الأصل، كمن يكلِّف نفسَه أمرًا لم يَأْذَن به الله؛ اعتقادًا منه أن هذا يقرِّبه إلى الله -سبحانه وتعالى- كمَن يُعَاقِب نفسَه بالوقوف في الشمس الحارقة أو بالضرب أو نزع الشعر، أو ألاَّ يَغْتَسِل؛ إلى آخر ذلك من أمثلة مفرطة القسوة، ومما يفيد هنا من الأدلة الشرعية ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- لمَن أخبره أن رجلاً نذر أن يَقُوم ولا يَقْعُد، ولا يَسْتَظلُّ، ولا يتكلَّم، ويصوم:    ((مُرُوه، فليتكلَّم، وليَسْتظِلَّ، وليَقْعُد، وليُتِمَّ صومَه)) رواه البخاري، وما قاله عليه الصلاة والسلام للتي نَذَرت أن تَحُجَّ ماشيَةً حافيَة:   ((لِتَمْشِ، ولتَرْكَبْ)) رواه مسلم
    ويتبع>>>>>: المحتوى الذنبي ع.س.م.د RCBT الوسواس القهري الديني25
      
 واقرأ أيضًا: 
 استشارات عن التعمق القهري! / استشارات وسواس العقيدة
 
                                                                     
                        		                    
 تعليقات الأعضاء
 تعليقات الأعضاء