أريد أجوبة
السلام عليكم ورحمة الله، جزاكم الله على مجهوداتكم؛
أنا أكتب إليكم وأنا لا أدري ماذا أريد، ولا ما أبحث عنه. أكتب إليكم ورأسي يكاد أن ينفجر من شدة التفكير، أكتب إليكم وقد قرأت العشرات، بل المئات من المقالات والاستشارات وشاهدت الكثير والكثير من الفيديوهات, أبحث عما يرويني ويشفي غليلي.
إخواني، أرجوكم اصبروا عليَّ، واصبروا على لغتي العربية المتواضعة. أنا إنسان، شاب يبحث عن نفسه، عن ماهيته وجوهره، يبحث عن هدف. شاب لديه الكثير من التساؤلات والأفكار ولا أدري ماذا أكتب منها. دعوني أولا أعرف عن نفسي.
أنا شاب قروي، عمري 28 سنة، غير متزوج، ظروفي المادية لا تسمح بذلك للأسف الشديد، أعيش في مدينة جنوب المغرب، أسكن في غرفة لمنزل يكتري فيها الطلاب والعمال القادمون من القرى المجاورة، كل شخص يكتري غرفة، وهناك غرف يسكن فيها 3 أشخاص أو أكثر..وداخل هذا المنزل نتشارك باقي المرافق كالمطبخ والحمام. لدي عمل الحمد لله، أكتسب منه مبلغاً مالياً، أدفع منه ثمن كراء الغرفة، أرسل منه إلى والدي في القرية, كلما كان هناك حاجة لذلك، والباقي أحاول أن أعيش به حياة متوازنة, أواجه بها قساوة هذ الحيا الصعبة البائسة.
أنا لا أدخن، لا أشرب الخمر, ولا أتعاطى أي نوع من المخدرات ذاك أنا إنسان بسيط، إنسان يحاول ويقاوم وسط هذه المليارات من البشر، عشت طفولتي كلها في قريتنا, وفي المناطق المجارة لها التي كنا نتنقل إليها للدراسة. طفولتي هذه كانت العصر الذهبي بالنسبة لي، كنت طفلاً مجتهداً محبوباً، طفلاً يضرب به المثل في الانظباط والجد.
علاماتي الدرسية كانت دوما مرتفعة، كنت أرسم لنفسي وأنسج لها أحلاما وردية. كنت أحلم أن أكون شخصاً ناجحاً. أن أخرج نفسي وأهلي من مستنقع الفقر، غير أنه جرت الرياح بما لا تشتهي السفن, وارتطمت بواقع الحياة الصلبة القاسية الشريرة. واقع يقصم الظهور. لم تتحقَّق أحلامي، وصرت أعيش حياة لم أكن يوماً أفكر فيها قط.
أصدقاء طفولتي ومعارفي السابقة أغلبهم حققوا أنفسهم وأنشؤوا بيوتاً وأسراً، أما أنا ها أنا ذا. أعاني وأقاسي وأتألم وحيداً. أنا لا أحسدهم ولا أحسد أحدا، لكن لماذا أنا. نظرات الناس تلتلهمي، وكلامهم اللاذع، لكن الذي يحطمني أكثر ويذيبني ويكسرني كسر الزجاج هو نظرة أمي وأبي لي. والداي اللذان يعلقان آمالهما عليَّ، والداي اللذين ينظران إلى أقراني، ويرون ابنهم يتخبط في هذا الفشل. لم أستمتع بطفولتي بشكل كبير كباقي الأطفال. كنت مشغولاً بالجد، والأحلام، وها أنا في كبري. لا أحلام تحققت، لا حياة طبيعية أستمتع بها.
أيعقل هذا، أيعقل ان تكون هذه هي حياتي ومصيري، أين ذهبت الطموحات والآمال، أيعقل هذا، أنه لأمر قاسٍ وصعب. أمام كل هذا، لديَّ الكثير من الأسئلة والاشكاليات في ذهني. أسئلة في الوجود، في الدين، في الشرع، في وجود الشر. دخلت في عالم آخر تمام. بالمناسبة في بدايتي إلتزامي، كنت أقرأ كثيراً في الأمور الشرعية، الفقهية والعقائدية، كنت متعلقاً بمن يسمون أنفسهم شيوخاً وعلماء، ولكن ومع توالي السنين تكتشف أمورا أخرى، اكتشفت الكثير من التناقضات لديهم، اكتشفت أنهم يلزمون الناس بأمور غير ملزمة، ويحرمون أموراً ما وقع اتفاق على تحريمها، والكثير من الأمور الأعمق من هذا، ولكن هذا ليس موضوعي، أردت فقط الإشارة إلى هذا.
موضوعي اليوم هو أسئلة وجودية، من أنا، لماذا أنا هنا، لماذا أنا هكذا، مالهدف من وجودي، مالهدف من وجودنا، لماذا خلقنا الله، لا إشارة، الأجوبة والديباجات الجاهزة -العبادة، الابتلاء...- لم تعد تجدي معي نفعاً. لدي أسئلة أكثر عمقاً، قد أتذكر معظمها الآن أو أشير فقط إلى شيء منها.
أولاً قضية الآية القرآنية "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون"، في اعتقادي، هذه الآية ليست كما يفهما الكثير، أو يحاولوا أن يهفهموها, أحيانا يقولوا لا يحق لنا أن تسأل عن أفعال الله، لماذا كذا، وكذا، وليس كذا. وإنه مهما وقع ليس أمامنا إلا الصبر. هذا الفهم يتعارض، في تقديري الخاص، مع سؤال الملائكة لله، وما أدراك ما الملائكة، عن سبب خلق الإنسان، وهذا السؤال كأنه يحمل صبغة اعتراضية (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ). ورسول الله ابراهيم قال ربي أرني كيف تحيي الموتى (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) وذلك طلباً لمزيد من اليقين كما فسر.
إذن، لماذا خلقنا، خلقنا للعبادة، الله محتاج لها. لا نحن المحتاجون لذلك ليرحمنا، إذن لماذا لم يدخلنا الجنة مباشرة دون ألم ومعاناة، أليس هو على كل شيء قدير، بكل شئ عليم، الرحمان الرحيم، أرحم بنا من أنفسنا، إذن لماذا كل هذه المعاناة والآلام في هذه الحياة، لماذا خلق الله الإنسان والكون، وما الحكمة من ذلك؟
وإذا كانت الجواب هو {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56]، أو من أجل خلافة الأرض وإعمارها، فلماذا يخلق الله مخلوقات، مثل الإنسان، ويعرضها لشتى أنواع الابتلائات والامتحانات، وقد ينتهي بها المطاف خالدةً في العذاب من أجل عبادته وتقديسه، ونحن نعلم أنه غير محتاج إلى ذلك، وحتى لو كان محتاجاً ـ حاشاه ـ فليس عدلاً أن نعاني من أجل سدِّ هذه الحاجة.
لماذا يخلق الله أرضاً من الأساس كي تكون هناك حاجة لعمارتها، ولماذا عليَّ أن أعاني في هذه الحياة من أجل إعمار الأرض التي أنشأها الله، والتي لو لم يخلقني عليها لما كان لي شأن بها أصلاً، أليس كلّ ذلك منافياً للعدل والرحمة؟
لماذا علينا أن نتألم حسياً ومعنوياً لندخل الجنة. قد يقول قائلٌ إذا دخلنا الجنة من غير ابتلاء لفسدت الجنة، لصارت الجنة دنيا، وهذه مغالطة، ففي الجنة لا يوجد حقد ولا غل شر. لا يوجد داعي ولامسبب للفساد (ونزعنا ما في صدورهم من غل) ثم إنه، كما جاء في أحد الأحاديث، لما يدخل المؤمنين الجنة، أنه يخلق خلقاً يسكنهم الجنة من غير حساب ولا ابتلاء أصلاً.
من جهة أخرى، لماذا هناك كل هذه الشرور، كل هذه المعاناة، هل لا بد منها لكي يتحقق الهدف؟
خلاصة ما يقال في هذا الجانب، دون أن أدخل في التفاصيل، ولو أنها يبدوا لي مهمة كي أوصل لكم بعض الافكار، هي أنه لابد من هذا الشر للوصول الى خير أكبر وأعظم. هذه هي الخلاصة، لكن أليس الله كامل القدرة والعلم، يستطيع الوصول أو أن يوصلنا إلى هذا الخير دون هذه الآلام والمعاناة, إذاً لماذا؟
قد تقول لي، نعم، الله كامل القدر ة والعلم، لكنه أنشأ هذه الحياة بهذه القوانين، وهذه القوانين تقتضي هذه الأمور، طيب، نعم، مادام هو الخالق، هو حر في خلقه، لمن ماذنبنا نحن كي خوض هذه الحياة بهذه القوانين، هل نحن اخترنا خوضها، آلله أخبرنا بحقيقة هذه الحياة وما فيها، ثم قبلنا خوض الامتحان. آالله خيرنا في وجودنا أصلاً. قد تقول، كيف يخيرنا في وجودنا وقد كنا عدماً. أقول لك أليس هو الله القادر على كل شيء.
من بين الصدف التي أود أن أشركها معكم، د. ذاكر في مقطع فيديو مناظرة مع ملحد، في رده على سؤال أن الله عز وجل خير البشر قبل البعث إلى الحياة الدنيا، أن يكونوا بشراً أم ملائكة، فاختاروا أن يكونوا بشراً، بعد ذلك مسح الله ذاكرة البشر، انظروا لرد الدكتور ذاكر، في الفيديو, ثم إلى هذه الفتوى التي ينفي بها رده، فهل نحن خُيرنا في خوض هذا الامتحان المصيري، أم إننا أجبرنا على ذلك.
نقطة أخرى: شبهة حديث محاجة آدم وموسى (قال له موسى: أنت أبونا خيّبتنا، أخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال له آدم: أتلومني على شيء قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى. ليس فيه احتجاج بالقدر، من بين ما قرأت في شرحه حتى أكون أميناً:
هذا ليس احتجاجاً بالقضاء والقدر على فعل العبد ومعصية العبد، لكنه احتجاج بالقدر على المصيبة الناتجة من فعله، فهو من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب، ولهذا قال: "خيبتنا وأخرجتنا، ونفسك من الجنة"، ولم يقل: عصيت ربك فأخرجت من الجنة، فاحتج آدم بالقدر على الخروج من الجنة الذي يعتبره مصيبة، والاحتجاج بالقدر على المصائب لا بأس به، أرأيت لو أنك سافرت سفراً وحصل لك حادث؛
وقال لك إنسان: لماذا تسافر لو أنك بقيت في بيتك ما حصل لك شيء؟ فستجيبه: بأن هذا قضاء الله وقدره، أنا ما خرجت لأجل أن أصاب بالحادث، وإنما خرجت لمصلحة، فأصبت بالحادث، كذلك آدم عليه الصلاة والسلام، هل عصى الله لأجل أن يخرجه من الجنة؟ لا، فالمصيبة إذاً التي حصلت له مجرد قضاء وقدر، وحينئذ يكون احتجاجه بالقدر على المصيبة الحاصلة احتجاجاً صحيحاً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حج آدم موسى، حج آدم موسى"، وفي رواية للإمام أحمد: "فحجه آدم" يعني غلبه في الحجة.
ثم أمر آخر ، الآية القرآنية (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا). يأتى سؤال: (لماذا) لماذا حينما عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال، لماذا رفضوا، ما هذا الوعى الذى كان عندهم جعلهم يدركون الأخطار ومشاق الرحلة ويرضون باللاحلود وباللاسعادة، ولمَ اختار الإنسان وأسرع وحمل الأمانة، هل الوعي مختلف عن وعي السماوات و.... و....، وهل من العدل الإلهي المطلق أن لا يكون طرف المعادلة الأول (الفعل) متزن ومتساوي فيكون مستوى الوعى مختلف، في حين أن طرفها الثاني (رد الفعل) يكون عدلاً إلهياً مطلقاً -القول بأن هذا اختيار الإنسان وهذا اختيار هذه الجمادات وكلٌ يتحمل مسؤوليته-، أي هل يمكن أن نختبر طفل في ابتدائي مع طالب ثانوي, ونعطيهم نفس السؤال مثل لوغاريتمات أو فيزياء. لا يمكن طبعاً لابد من تساوي الممتحن والمبتلى بالسؤال.
ليس منطقياً أن يكون مستوى الوعي مختلفاً. هذا عين الظلم، ولا أظنه كان مختلفاً، ولكني لا اعلم لم اختلف رد الفعل العدل عندي: أن يكون الوعي واحد ومتحد مع أجزائه, فالإنسان كالحيوان كالسماوات كالأرض, لهم نفس العلم ونفس الوعي وبالتالي يجب حتماً أن تكون اختياراتهم متطابقة فيقبلون أو يرفضون معاً.
لماذا أصلا يكون هناك أرض أو سماء أو وجود أو كون لمَ، والله هو الغني عن كل ذلك، لمَ يكون هناك اختبارات وخلافة، وإذا خلقنا ليسعدنا السعادة العظمى وهو الرحمن الرحيم فلمَ لا يجعلنا الله (جميع خلقه) فى جنته ونعيمه وجواره. (وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ).
وإذا رجعنا الى موضوع الشر ، وقلنا أن حرية الاختيار الممنوحة للإنسان تقضي وجود هذا الشر، يرجع السؤال مجدداً، هل خُيِّر الإنسان أولاً كي تكون له حرية اختيار، ولماذا في الجنة ليس فيها شر رغم وجود حرية الاختيار، فإذا قلنا أنه في الجنة لا توجد حرية اختيار نكون قد وقعنا في مشكلة كبيرة. وإذا قلنا أن فيها حرية اختيار -وهذا هو الحاصل- ولكن الغل يزال من القلوب، فلماذا لا يزال هنا، ثم قبل ذلك من أين جاء الغل، ما مصدره، ولماذا يوجد في صدور أشخاص ولا يوجد في صدور آخرين؟
إذا قلنا أنه وليد ظروف معينة يعيش فيها الإنسان، يأتي السؤال لماذا وضع الإنسان في هذه الظروف، ما ذنبه كي يوضع فيها، فكم من إنسان منحرف، لو وضع في ظروف أخرى لصار شخصاً جيدا، قد يقول قائل، وكم من إنسان ولد في ظروف صعبة وصار شخصاً جيدا. وأنا أقول إن هذا ليس إجابة على السؤال، وإنما هو طرح لا استثنائي، ويبقى السؤال مالسر في اختلاف اختيارهما، أهو شيء يتحكمان به، أم أنه خارج عن إرادتهما. دون دخول في موضوع الجينات والنظرة البيولوجية.
وخلاصة هذه النقطة، ما سبب كون كل شخص على ما هو عليه، مالسر في كون هذا الشخص مريض، أعمى أو فقير وليس غيره، علماً أن وضعية لها تأثير مباشر على مصيره في الآخرة, إذا قلت ابتلاء، فلماذا هو المبتلى بالفقر والمرض ليس أنت.
آية أخرى أود الاستفسار عنها (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) أغلب من يقرأ هذه الآية، يذهب ذهنه أن الحياة المقصودة في هذه الآية هي حياة طيبة من الناحية المادية والرزق، لكن أليس الأنبياء والأولياء هم أصلح الناس، وهم كذلك من عاش أشد البلاء.
آية أخرى (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) ما معنى التيسير الموجود في الآية، والقرآن الكريم لا يفهمه الكثيرون، بل واختلف فيه المفسرون. قد يقول قائل كل هذه الأسئلة هي نتيجة لفشلك وعدم قبولك لوضعك، وماذا بعد، فهي تظل أسئلة تريد أجوبة.
نعم هي نتيجة لوضعي، لكن هذا الوضع هو وضع الملايين من الشباب في هذا العالم الإسلامي. شباب لم يعد يفهم أي شيء. ما بين هؤلاء المجرمون الدواعش، وما بين الحكام الذين أكلوا ونهبوا أموال الشعوب، وما بين رجال الدين الذين منهم صراحة أناس أغبياء، منهم آخرون بعيدون تماماً عن الواقع، فلو أن واحداً منهم درس الاقتصاد. أين تذهب الأموال، من يمتلكها، وأنتم تعلمون عما أتحدث. ثم درس علم الاجتماع، وعلم حال الناس اليوم من انتشار جميع المصائب لأصابه الجنون.
في الحقيقة لدي الكثير من الاسئلة، لكن لا أريد أن أكتب لكم جريدة،
وهذا دون أن أدخل في الفقه الإسلامي, والكثير من الكوارث التي لا زال يروجها الكثير من الوهابيين والسلفيين.
7/8/2016
رد المستشار
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته يا "عبد العزيز"
قل لي: ما أخبار صلاتك؟ ما أخبار علاقتك بالقرآن؟ أورادك في الصباح والمساء؟ تفكرك في المخلوقات من حولك؟ هل لك ولو خمسة دقائق صباحًا ومساءً تجلس فيها بصدق مع الحبيب الأول سبحانه؟ ثم ما نوعية الناس الذين تسكن معهم؟ ثقافتهم؟ أخلاقهم ونفوسهم؟ دينهم؟
مشكلتك ليست مشكلة عقلية بالمرة! وإنما هي تعبٌ روحي نفسي بحت. فها أنت تعرف جميع الأجوبة العقلية المنطقية التي تتعلق بأسئلتك، لكنك لا تقتنع، لماذا؟! ببساطة لأن مشكلتك ليست قضية شبهات عقلية. ستعرف من أنت، حين تعرف جوهرك الذي تتميز فيه عن غيرك، والذي لا يشبهك فيه أحد، هو روحك التي نفخها الله فيك، غفلت عن تنميتها وتغذيتها بالحب الإلهي، بذكر من أودعها فيك، فضعفتْ ولم تعد تشعر بها ولا بذاتك، تعب جسمك وعقلك، تعبت قدرتك النفسية، كل ذلك من الغفلة عن الاستعانة بالقوي، الرحيم، الذي يشرح الصدور، وهو القائل: ((أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)) [الانشراح:1].
متعبٌ من وضعك، وما تقوله في رسالتك من مفرزات تعبك، وهذا باعترافك... لماذا أنا، طيب ماذا لو كان غيري، إذن لماذا أنا أو غيري نعاني، ثم لماذا الحياة من أصلها؟!!!
قم يا شاطر باعتبار الله لم يحسن ولم يعدل حينما خلق هذه الحياة على هذه الشاكلة، قم وأرنا صنعك البديع، وغيّر هذا الصنع، وهذا الكون، وهذا المجتمع، وهذا الإنسان...، هل تستطيع؟
هذا معنى قوله تعالى: ((لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)) [الأنبياء:23]، لا أحد يستطيع أن يحاسبه، ولا أن يحتج، ولا أن يغير، فهو الحكيم العليم القادر، وغيره ليس كمثله.
أما سؤال أحدنا (لم فعل الله هذا؟) إن كان من باب معرفة الحكمة، فجائز، بل هو من أنواع التفكر. أنا أعلم أن الله تعالى حكيم، أعلم أنه قدير، أعلم أنه يريد لعباده الخير في الدنيا والآخرة، ولكني رأيت شيئًا لا يتضح لي فيه حكمة الله، ولا أستطيع أن أهتدي إليها رغم أنها موجودة، ورغم أني لا أعترض، وأنا أقبل بكل شيء جاء من الله حتى لو لم أهتدِ للحكمة.
هنا يجوز لي أن أسأل فقد سألت الملائكة عن خلق آدم عليه السلام: ((قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)) آمنوا أن الله حكيم، ولكن سألوا ما هي الحكمة من خلق من يفسد ويسفك الدماء؟! قال لهم: ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)) أعلم من الخير والحكمة ما لا تطلعون عليه، فلا تتعجبوا من أن يكون فيهم من يفسد ويقتل، فإني أعلم مع هذا بأن فيهم الصالحين والمتقين وأنتم لا تعلمون؛ وقد تكون مصلحتكم أن تعرفوا وجه الحكمة على الإجمال دون التفصيل، ثم عرفهم بعد ذلك وسيأتي عند شرح آية عرض الأمانة على الإنسان.
ويجوز لي أن أقوي إيماني ويقيني بمعرفة المزيد من قدرة الله وحكمته، كما طلب سيدنا إبراهيم عليه السلام من ربه فقال: ((رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)).
فهل ترى أسئلتك من النوع الأول أم الثاني؟ هل تراها للاعتراض والاحتجاج والنكد أم للتفكر والطمأنينة؟ لقد جئت إلى هذه الدنيا بشروط الله تعالى، وليس بشروطك، مهما اعترضت ومهما فعلت لن تستطيع تغيير هذه الشروط ولا حقيقة وجودك. احتج ما طاب لك الاحتجاج، اعترض ما طاب لك الاعتراض، هذه الحقيقة التي لا تتغير، إنما يتغيّر حالك في الدنيا، وجزاؤك في الآخرة: قال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ)). رواه الترمذي وابن ماجه. ومن آثار رضى الله تعالى الدنيوية على الراضي أن يرضيه ويرزقه القناعة ويشرح صدره، ومن آثار سخطه الدنيوية على الساخط أن ينكد عيشه، ويضيق صدره.
فالحياة الطيبة التي وعدها الله عباده المؤمنين هي القناعة، والسكينة والرضا، فغير القانع لا يسعد ولو معه مليارات، ولو كان موفور الصحة، يتنكد عيشه إذا رأى أن سيارة فلان أحدث من سيارته، ويطير النوم من عينيه قلقًا على تجارته....، أو يتحسر على فلانة أحبها لا يستطيع الزواج منها خوفًا من المجتمع، أو زوجته وأولاده وخراب بيته...
القانع مرتاح، قد يكون معدمًا، يأكل كسرة الخبز صباحًا فيقول: اللهم أدمها نعمةً عليّ ولا تحرمني إياها. تراه يقول: الحمد لله أستطيع أن آكل... الحمد لله لست في المشفى... الحمد لله رزقني كسرة فأكلت وشبعت وغيري يتضور جوعًا لا يجدها، وهناك من يأكل ويأكل ويبقى جوعانًا!! فالحمد لله أن شبعت...
تقول لي: ولكني لا أستطيع أن أرضى، وبذلك ظلمني الله وامتحنني بشيء لا أصبر عليه. الجواب: من معاني قوله تعالى: ((لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها)): أنه لا يكلف الله الإنسان بأشياء لا يستطيعون تحملها، فطالما امتحنك بما أنت فيه وكلفك بالصبر، فأنت تستطيعه في حقيقة الأمر. وإذا اختارت أرادتك الحرة الصادقة الصبر، وكنت من أعماقك تريده، ولكن نفسك البشرية الضعيفة تنازعك، فاستعن بالله فكلنا لا نقدر على الصبر ما لم يعنّا سبحانه ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّه)) [النحل:127]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أَعْطَى اللَّهُ أَحَدًا مِنْ عَطَاءٍ أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ)). والحديث رواه البخاري في صحيحه.
تفكر في حكمة الله فيما حولك من أشياء مفهومة لك، وأنا عندما أؤمن بحكمته سبحانه، من خلال ما أراه من أشياء مفهومة لدي، فلابد أن أسحب هذا الإيمان على ما لم تظهر لي الحكمة منه، فأرضى وأقنع، وأرتاح....
هذا طريقك للراحة، وإن كنت ما زلت مكفهرًا عابسًا تقول: لا أريد أن أتفكر، لا أريد أن أسمع، لا أريد هذا الكلام. أريد أن يغير الله تعالى قوانينه، فاعلم أنك ستبقى منكدًا، واعلم أنك اخترت هذا بملء إرادتك الحرة، اختيارك هذا لم تجبر عليه، هو شيء تتحكم به وليس خارجًا عن إرادتك.
قد تجد صعوبة في التنفيذ في البداية، نعم، ونفسك تحتج وتنازعك، والأجر على قدر المشقة، ربما غيرك لا يشعر بهذه المشقة في هذه الناحية، ولكنه قد يشعر بها في ناحية أخرى سهلة التطبيق عليك. لكن: ألست بعقلك المجرد الذي تستعمله لحساب 1+1=2، وبعيدًا عن المشاعر كلها، ألست تعلم منطقية ما ذكرته لك؟ هل هناك من يمنعك عن التصديق به، أو تطبيقه؟ لا أبدًا سوى مشاعر الغضب والكبرياء!!!
ترجيح العمل بما يمليه هوى النفس على ما يمليه العقل، يكون بإرادتك الحرة ونتيجته الخسران، وترجيح ما يقوله العقل على ما تفور به النفس من اعتراضات، وقمع ذلك لأنه –كما حكم العقل- لا يجلب إلا النكد في الدنيا والعذاب في الآخرة، أيضًا باختيارك وإرادتك الحرة، ولا أحد يلزمك بهذا ولا بذاك. ولا تلقِ اللوم على مشايخ السوء، فهناك مشايخ حق أيضًا، اطلب من الله بصدق أن يدلك عليهم، وعلى الصحبة الصالحة، وسيكرمك بذلك. أعجبتني مقولة قرأتها: (الابتلاء ليس لاختبار قوتك الذاتية، وإنما لاختبار قوة التجائك إلى الله).
الخلاصة: جالس إنسانًا قانعًا طيب القلب كهؤلاء الكبار الذين عركتهم الحياة بحلوها ومرها فأعطتهم الحكمة، وتفكر في خلق الله تعالى وتأمل في حكمته، وزد يقينك بذلك، ثم اسحب يقينك هذا وقناعتك على كل شيء في الوجود، وسيزول عنك كل هذا....
تبقى بعض التساؤلات التي تحتاج إلى إجابة خاصة:
هل خيرنا الله تعالى على قبول الامتحان أم أجبرنا؟ أما الله تعالى فقال في محكم كتابه الذي صدقنا به: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) [الأعراف:172]. وقال: ((إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)) [الأحزاب:72].
إذن خيّرنا أن يكون لنا تكليف وإرادة، وأن نحمل الأمانة، فقبلنا. والأمانة صعبة شاقة، تحتاج إلى رعاية، وهناك عدوّ هو إبليس يحاول دائمًا أن يجعلنا نضيعها. إذن لماذا قبل الإنسان حملها وهي على هذه الشاكلة؟ ورفضتها سائر المكوَّنات؟ يقولون: إن السماوات والأرض والجبال نظرت إلى قوتها وتكوينها، فوجدتها ضعيفة عن حمل هذه الأمانة، فرفضت. والإنسان نظر إلى قدرة من عرض عليه الأمانة، وقال من خيّرني عالم قادر لا يعرض الأمانة إلا على أهلها، وإذا أودع لا يتركها بل يحفظها بعينه وعونه فقبلها. ولهذا يقول المؤمن: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5].
طيب، لماذا وصفه بأنه ظلوم جهول، وهو قد استعان به سبحان؟ هناك تفسيران للآية أيضًا، قويّان، غير الذي اشتهر بين الناس:
أولهما: أن الإنسان بطبيعته التي خلق عليها، فيه الظلم والجهل، فلما أعطي الأمانة، بقي بعض الناس على الظلم والجهل وضيعوا الأمانة، وحفظ آخرون الأمانة، فهذبوا أنفسهم وتركوا الظلم والجهل. هذا قول، وهناك تفسير آخر: أنه كان ظلومًا جهولًا في نظر الملائكة، وهذا سبب تساؤلهم عن حكمة خلقه؛ ولكن الله تعالى بيّن لهم أنه أعلم منم كما قال: ((وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)) [البقرة:31-33].
عرفهم سبحانه أنه لا داعي للتعجب من خلقه فقد علمه ما لا يعلمونه ولا يعرفونه.
أما الآية الأخرى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) [الأعراف:172]. فهنا لا نذكر الحادثة كما نتذكر الأشياء، لأن الدماغ على ما هو عليه الآن، والذاكرة لم تكن مخلوقة بعد، وإنما حصل هذا الأمر عندما كنا في عالم الذَّر في صلب أبينا آدم عليه السلام، خاطب أرواح البشر، قبل أن يخلق ذاكرتهم. إذن: لابد أن نسأل الروح عن هذه الشهادة، وأما الذاكرة التي في الدماغ، فكيف نسألها ولم تكن موجودة؟
وكيف نسأل الروح؟ في كثير من الأحيان، عندما يسمع الإنسان القرآن، أو واعظًا من الوعّاظ، أو ذكرًا لله، يشعر بخشوع وحنين، (ونرى ذلك أحيانًا على الأجانب الذين لا يفهمون القرآن، ولا يعرفون الإسلام)، ومن المعلوم أن الإنسان لا يحنّ إلا إلى شيء يعرفه، الإنسان يحن إلى بيته إذا سافر، ولا يحن إلى بلد أخرى لا يعرفها، قد يشتهي زيارتها، لكنه لا يحن ولا تفيض مشاعره إذا ذكرها، من أين أتى الحنين؟ وإلى ماذا هو؟ الحنين الذي يشعر به هو حنين إلى النداء الأول الذي نادانا الله تعالى إياه وأشهدنا على أنفسنا، حنين إلى عذب كلام الله، إلى القرب منه. هذه ذاكرة الروح عن شهادتنا بأن الله ربنا، كل إنسان يشعر لا محالة، ولو مرة واحدة في عمره، فأما من أراد تضييع الأمانة باختياره، يتجاهل هذا الحنين، ويشوش عليه بصفات الظلم والجهل، وأما من أراد رعاية الأمانة باختياره ينتبه إلى هذا الحنين، ويرعاه وينميه بالطاعات، ومخالفة الهوى والشيطان، واتباع نداء العقل والشرع، وحينها يعرف ذاته، وأنه عبد لهذا الإله الذي ناداه.
وتفسير ذاكر نايك بأن الذاكرة تم محوها، يمكن أن يرد، لكني –شخصيًا- أرى التفسير السابق أكثر دلالة.
وهنا آتي لاستفسارك عن قول ذاكر: (إن الله خيرنا أن نكون بشرًا أم ملائكة؟) مع أن الله لم يخيرنا هل نكون بشرًا أم لا! أنت لو نظرت إلى سياق الكلام والحوار، وجدت السائل يقول: إنه لا يريد أن يكون بشرًا مختارًا، يريد أن يكون مَلَكًا. وذاكر أخبره بتخيير الله لنا أن نحمل الأمانة، وبما أن الأمانة التي هي التكليف متلازمة مع البشر، فقد استخدم كلمة (خيرنا أن نكون بشرًا) بدل (خيرنا أن نكون مكلفين) باعتبار السائل يقول: (لا أريد أن أكون بشرًا) قاصدًا بذلك (لا أريد أن أكون مختارًا مكلفًا). فلا مشكلة في كلامه.
نأتي لسؤالك عن قوله تعالى: ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) [القمر:17]. والآية مكررة في السورة أكثر من مرة. تتساءل: (ما معنى التيسير الموجود في الآية... والقرآن الكريم لا يفهمه الكثيرون... بل واختلف فيه المفسرون؟)
أولا: معنى الآية كما رجحه الإمام الرازي في تفسيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر بحال نوح عليه السلام وكان له معجزة؛ قيل له: إن معجزتك القرآن ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ)) تذكرة لكل أحد، وتتحدى به في العالم ويبقى على مرور الدهور، ولا يحتاج كل من يحضرك إلى دعاء ومسألة في إظهار معجزة، وبعدك لا ينكر أحد وقوع ما وقع).
أي يسره ليكون معجزة باقية تذكر كل أحد. وإذا كان ثمة من لا يفهم، فسأقول لك مثالًا يغني عن كل شرح، والحقيقة أن ابن أختي -ذا الثلاث عشر ربيعًا- رآني أكتب فقال: ماذا تفعلين؟ قلت: أجيب عن سؤال كذا وكذا. فقال لي: (هذا مثل إنسان عامي لا يعرف سوى اللغة العربية العامية، أحضروا له نصًا إنكليزيًا سهلًا جدًا، فقال هذا صعبٌ لا أفهمه!!!).
النص في ذاته سهل، لكن المشكلة في الرجل الذي لا يعلم، نقول له: اذهب وتعلم بعض الإنكليزية، وستجده سهلًا!! فليذهب من لا يفهم وليفك شيئًا من أميته بهذا الكتاب العظيم، وليسأل إن لم يعلم، وحينها يعلم أن القرآن ميسر فهمه لكل من أراد أن يفهم: فهل من مدَّكر متذكر؟؟ فسبحان من فتح على هذا الطفل بهذا المثال، ويسر له الذكر وفهم كتابه!
وأما اختلاف المفسرين، فلأن القرآن حمّال أوجه، ومن إعجازه أن الكلمة الواحدة، تتضمن أكثر من معنًى صحيح، وكل معنى له شاهد من السنة، أو من الاكتشافات العلمية حاليًا، أو من العقل....، وكل مفسر يشرح ما ألقاه الله في قلبه من الآية منضبطًا بقواعد لغة العرب حين نزل القرآن، وبالنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تفسير الآية. وليس كما يحصل اليوم من تأمل المتعالمين الذين يسمون أنفسهم (مفكر وباحث إسلامي) لا يعرفون نطق حرف لثوي، ولا قراءة آية مجودة، فضلًا عن فهم المعاني العربية واستخدام الكلمات، ثم يقول أحدهم: (أنا برأيي، معنى الآية كزا (بالزاي بدل الذال) والمراد بها كزا) هؤلاء الذين أرادوا (بهدلة) الدين وتشويهه، وفتنة الناس، لإعجابهم بنفسهم أو عمالتهم؛ فبهدلهم الله وأذلهم وفتنهم. ثبتنا الله جميعًا على دينه.
ومع هذا لا نلقي اللوم عليهم في تقصيرنا وقلة صبرنا وضياعنا، ولا على الحكومات، ولا على داعش وغيرها... هم عقبات جعلهم الله ليرى صدقنا في بذل الجهد للوصول إليه مهما كانت الظروف، الصادق لا يبالي...، والمتواني المتكاسل يسقط عند أول عائق. لا الحكومات، ولا داعش، ولا مشايخ السوء، يمنعونك من صلاة الليل....، من الدعاء والذكر، من التزام الأخلاق الفاضلة. من يتذمر من عدم نظافة الشوارع، هل الحكومات أجبرته على رمي قشرة سكرة، أو كيس شيبس في الشارع؟ إنها أخلاقه هو، ومسؤوليته هو، وتقصيره هو. ومن يتق الله فيما يستطيع يجعل له من أمره يسرًا في الدنيا والآخرة.
تسأل أيضًا: لماذا لم ينزع الله الغل من قلوب الناس في الدنيا كما ينزعه في الآخرة: الدنيا دار تكليف واختبار، وحرية الاختيار لا تظهر إلا مع تعدد الاختيارات، أما إذا كان لديك خيار واحد، فأين الحرية وأين الاختيار؟ أما الآخرة، فهي دار جزاء، فإذا طهّر الإنسان قلبه من الغلّ في الدنيا، كافأه الله فأبقى له في الآخرة قلبه الذي نظفه هو من الغل بإرادته في الدنيا، وأسكنه جنته التي فيها الخير المطلق الذي لا يخالطه شر. أما من لم ينظف قلبه من الغل في الدنيا، فسيبقى غله معه في الآخرة، مع غم وهم وألم، فالنار فيها شرَ مطلق لا يخالطه خير.
وأخيرًا: أعلق على تألمك من نظرة والديك....، هذا الحس المرهف، والصدق في الحب لهما الذي لديك، وكثيرون هم الذين لا يأبهون بشيء، يتوفر لهم كل شيء، ويختارون طريق الفشل، ويدخلون الحرقة على قلب والديهم... أقول: لا يوجد والد ولا والدة إلا ويضع أمله في أولاده، يتخيلهم في أعلى الدرجات، ويتمنى لهم النجاح تلو النجاح لتقرّ عينه بهم، فهو يحبهم أكثر من نفسه....، ولكن هل يستطيع الأولاد فعلًا تحقيق ذلك؟ أكثرنا لا يستطيع بلوغ آمال أبويه فيه (واسألني أنا) خاصة إذا وضع الأبوان سقفًا عاليًا للنجاح. ولكن نحن نبذل جهدنا، فما وصلنا إليه حمدنا الله، وما لم نبلغه، فعلينا وعليهم أن يصبروا، وإذا تألموا فهي مشاعرهم الأبوية التي لا نستطيع ولا نُطَالَب بتغييرها، فلسنا مكلفين بأكثر من طاقتنا.
آمل أن أكون بهذا أجبتك على كل ما يقلقك، والباب مفتوح لتذكيري بما لم أفطن له، سواء عن طريق ما تراه مناسبًا: تعليق، أو متابعة منفصلة للاستشارة، وأهلًا وسهلًا بك دائمًا.
واقرأ أيضًا:
نفس اجتماعي: مشاكل دينية Religious Problems